نجيب محفوظ مطرباً

31 يوليو 2018
نجيب محفوظ مطرباً

بقلم:
السمّاح عبد الله
كان “نجيب محفوظ” في طفولته، مغرما بالغناء، وطوال النهار تراه جالسا بجوار الفونوغراف يستمع إلى اسطوانات الشيخ “سيد درويش”، وطوال الليل يقف على باب المقهي ليستمع إلى قصة “أبو زيد الهلالي سلامة” من شاعر الربابة، وبالرغم من أنه لم يكن يفهم كثيرا مما يقوله شاعر الربابة بحكم صغر سنه، إلا أنه كان مشدودا لفتنة الإيقاع.
وكان صوته جميلا، حتى أن بعض السميعة كانوا يطلبون منه أن يغني.
كانت جارة لهم من الشام تسكن في خان الخليلي تزورهم في الجمالية، وتجلس مع والدته على سطوح البيت، لتشكو لها زوجها الشامي الذي كان شديد العصبية، ومنه استوحى “نجيب محفوظ” شخصيته الفنية الأكثر شهرة “سي السيد”.
بعد جلسة الشكوى هذه، كانت المرأة الشامية تطلب من “نجيب محفوظ” أن يغني لها، فيقف على حجرتين فوق بعضهما، متخذا هيئة المغنين، ويبدأ في الغناء:
أنا رأيت روحي فى بستان
كان وقتـها البدر يلالي
وكنت أشوف بين الأغصان
نور القـمر يحكي غزالي
شميت أنا ريحة الريحان
ماعرفش إيه اللى جرالي
وبقيت كده زي السكران
لوحدي خايف على حالي.


كان “نجيب محفوظ” وهو يغني، يحاول أن يقترب من أداء “سيد درويش”، ومن طريقته في التمايل والطرب، وكان يختار نوعا بعينه من الأغاني، يذكر فيها فراق الأهل، وغربة الديار، ثم ينتقل بين المقامات الموسيقية كما يليق بالمطربين المحترفين، ولا يكف عن الغناء إلا عندما تزجره أمه، حين تلاحظ أن جارتها الشامية قد انخرطت في البكاء من أثر الغناء.
وكان “نجيب محفوظ” كلما نظر من نافذة بيتهم في بيت القاضي، يطلب منه الشمّاع أن يغني.
والشمّاع، هو السيد “نجيب حنفي”، المسئول عن الحنفية الموجودة في ميدان بيت القاضي، والتي هي مصدر المياه للمنطقة كلها، حيث يقف السقاءون في طوابير صباح كل يوم، ليقوموا بتوصيل المياه للبيوت كلها، ويصيحون لكي يفسح النساء لهم الطريق بكلمات غنائية:
الميا السلسبيل
وسع طريق ياعطشان.


ويبدو أن “نجيب حنفي” هذا، طُلب في شهادة ما أمام المحكمة، فشهد زورا على نسوة الحي، فأصبح كلما مرت به مجموعة من النسوة في ملاياتهن اللف، يغنين بصوت موحد أغنية كانت شائعة في ذلك الوقت للمطرب عبد اللطيف البنا، تتقول كلماتها:
عجايب والله عجايب
ما يصحش يا منصفين
تهجرني وتعشق غيري
وعوازلي مهنيين.
يغنين هذه الأغنية بعد أن يغيرن كلماتها تماما، لتصبح في هجاء الشمّاع شاهد الزور، فينتفض من مكانه صارخا فيهن.
ولما كان “نجيب محفوظ” بطبيعته منحازا للشعب، أي شعب، حتى لو كان مجرد نسوة في ملايات لف، ضد السلطة، أي سلطة، حتى لو كانت مجرد شمّاع مسئول عن فتح الحنفية العمومية وإغلاقها، فقد انتظر حتى انتهى المعلم “نجيب حنفي” من إغلاق حنفيته، بعد أن ملأ للسيدة النحيلة إبريقها النحاسي، وساعدها في وضعه على رأسها، والتفت إلى الطفل المطل من نافذة بيته، وقال له وهو يجلس على كرسيه:
غن يا “نجيب”.
فوضع “نجيب محفوظ” يديه حول فمه، كبوق ليصل صوته لأبعد مكان في بيت القاضي، وغني أغنية “عبد اللطيف البنا” الشهيرة، ولكن بالكلمات التي قام النسوة بتبديلها:
عملولنا الناس قضية
قدام قسم الجمالية
وشهد بتاع الحنفية
أشكي الشماع لمين؟.
كان اللحن نفس اللحن، وكان الصوت شديد العذوبة، لكن الكلمات كانت كرباجا يجلد الشمّاع الذي من يومها لم يعد يطلب من الطفل الشقي “نجيب محفوظ” أن يغني.


عن جريدة القاهرة ٢٩- ٧-٢٠١٨

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com