استوى أخيراً على العرش
خالد بريش
———-
كاتب لبناني – باريس
استيقظ مبكرا، وارتدى بدلته الجديدة، وربط جيدا ربطة عنقه، وتعطر، ثم ذهب إلى المتحف في وسط قاهرة المعز. بلد الألف مئذنة، التي يقولون في الصحف إنها سُبيت على حين غفلة من أهلها. وصودر قرارها. وطوِّع عُنفوانها، بعدما قدمها كافور على طبق من فضة هدية مجانية باسم السلام الكاذب للأعداء الذين دفنوا أبناءها وشبابها أحياء في رمل سيناء. وذلك بعد قيامه بالحج إلى كامب ديفيد، وأدائه فروض الطاعة اللازمة والخنوع.
دفع رشوة كبيرة لأحد الحراس لكي يسمح له بأخذ صورة تذكارية وهو جالس على عرش أحد سلاطين المماليك. طلب منه الحارس الانتظار، ريثما يذهب زميله الحارس الآخر لأداء الصلاة، ويكون عندها هو المؤتمن الوحيد على العرش. أخذ يدور في ردهات المتحف وصالاته، متنقلا بين العصور المختلفة، التي طالما سمع عنها وأثقلت روحه، ولا تعنية بشيء. كل ما يعنيه هو ذلك العرش فقط، وأخذ صورة عليه، ولو لم يكن مؤهلا له. إذ مَنْ في هذه البلاد بطولها وعرضها يجلس في مكانه المناسب، والمؤهل له، ويستحقه…؟!
كان حُلما يُداعب خياله منذ أمدٍ طويل، وها هو سوف يتحقق. وما هي إلا دقائق معدودات حتى يصعد تلك الدرجات، ويجلس على العرش، ويضرب عندها الأرض بقدميه صارخا: أنا الذي تعرف البطحاء وطأته… مُهَمْدرا بكبرياء: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا…!
تهادى صوت الأذان إلى مسمعه، فعاد مُسْرعا إلى الحارس الذي أخذ منه الرشوة لتوه من قبل أن يصعد أحد قبله. فطالبه الحارس الأمين بزيادة، فدفع بالتي هي أحسن. فأخبره عندها أن بإمكانه الصعود، والتنعم بالجلوس على العرش، وأخذ صورة وهو متربع عليه، هانِئا مُبْتسما. شريطة أن لا يجلس طويلا، وأن يُسْرع قبل عودة زميله الحارس الآخر، وحتى لا يعاقب من أولي الأمر…
ما إن وقف أمام الدرجات القليلة المغطاة بالسجاد الأحمر، حتى رفع رأسه بهدوء تام، ثم نظر إلى العرش مُحَمْلقا. فأحس برهبة وقشعريرة قد انتابته، وكأن ذرات كيانه قد تغيرت وتبدلت فجأة، وأصبح مخلوقا آخر…!
نظر حوله يمينا ويسارا ثانِيا عِطفه. فتحولت الرهبة فجأة إلى زهو، ومشاعر عظمة…! صعد الدرجات بتؤدة، وهدوء تام، كأنه فعلا سلطان الزمان، وصاحب العرش الفعلي والأوان. مُتمْتِما باسم الجلالة، طالبا العون منه: يا الله… يا الله…
وصل إلى أمام العرش مباشرة، فأدار ظهره نحو جمهور المتفرجين، وقد قطب حاجبيه، ثم نظر إلى البعيد، هناك… على الحائط المقابل، حيث يوجد لوحة زيتية كبيرة تخلد معركة المنصورة والانتصار على الصليبيين. فتنفس بملء رئتيه، ملقيا نظرة كبرياء وازدراء على المتجمعين عند أقدام العرش، وكأنهم رعيته. والذين كانوا يراقبون خطواته بإعجاب، وببعض التساؤلات التي تدور في خلدهم، كونهم شعروا أنهم أمام سلطان حقيقي، لم يكن ينقصه إلا صَوْلجان الحكم. والفَرَمَان الذي يُلقيه عليهم. حرَّك بإصبعيه زرْدَة ربْطة عنقه، وضبطها، ثم جلس.
كان من بين المتفرجين من دفع أيضا رشوة مثله لحارس العرش، بل دفع أكثر منه. وهو أضخم جسما، وأطول قامة، وأعرق أصلا ونسبا… وقد بدأ يتحرق وهو ينتظر نزوله عن العرش بفارغ الصبر، لكي يجلس مكانه.
رفع رأسه قليلا للخلف، لاويا عنقه، متنفسا بملء رئتيه، نافخا حمم صدره، وقد جحظت عيناه، واحمر وجهه، واقترب عصفوري حاجبيه من بعضهما. ثم التفت يمينا وشمالا، فظن القوم عندها أنه سيلقي عليهم خطبة عصماء حول جلوسه على العرش. ولكنه والحمد لله لم يفعل لأنه أمي أصلا، لا يقرأ إلا لِماما، ولا يكتب إلا أوامر الأسياد ومرؤوسيه. ركز جلسته بعدما وضع يديه على مسندي العرش، وأرجع رأسه إلى الخلف، وأغمض عينيه، ثم فتحهما، وركز بصره نحو الأعلى.
ظن بعضهم أنه يقوم بتمثيل دور في فيلم سينمائي من شدة إتقانه لحركاته، وأنهم يمثلون دور الرعية بل الكومبارس… ولكنهم لم يروا حولهم كاميرات، ولا أضواء. انبهر الحارس الأمين على العرش من أدائه الرائع، وكل السياح الذين كانوا يتفرجون عليه.
شدَّ فجأة انتباه سائح تمارس بلاده الوصاية على العالم، وكان يقف مع سائح آخر ينتفخ جيب قميصه بعدة جوازات سفر، ويحمل بيده نسخة من التوراة. والاثنان منهمكان في نقاش حول الوعد المزعوم بأرض الميعاد. فقطع نقاشه، وصفق له بحرارة، مُعْجَبا بروعة إتقانه للجلوس على العرش، وكل مقدماته. بينما شدَّ السائح الآخر بيده على التوراة، وانتظر إشارات الولاء التطمينيه، وكل ما يستتبعها.
صفق أيضا سائحان آخران شارك بلداهما في حفر قناة السويس، وفي شقِّ حُفَرٍ أكثر عمقا في تشكيلات المنطقة الإنسانية ومجتمعاتها لم تردم بعد، وربما لن تردم. ثم تبعتهم بقية جوقة السياح الغربيين، مُحْدِثين ضجة غير مَحْمودة في المتحف، لأنها قد توقظ مومياءات الفراعنة الذين شهدوا يوما خروج بني إسرائيل من مصر، والعائدين إليها اليوم بمسميات أخرى. بينما امتعض أبناء بلده الموجودين بمحض الصدفة في هذا المشهد الكوميدي الباعث على الألم، كما هو حالهم في كل المناسبات المصيرية الأخرى.
أشار إليه الحارس بالنزول، لأن غيره ينتظر نفس الحظ في الجلوس على العرش، والتنعم بهذه النعمة. فلم يرد عليه. ورأسه مستند إلى الخلف، وعيناه شاخصتان في البعيد البعيد، شادا ضاغطا على أسنانه. صعد إليه الحارس ورفع يده، فوجدها نارا تتلظى، وهو جثة هامدة بلا حراك…!
فرح أبناء بلده بصمت، ولكنهم أظهروا حُزْنا. ورددوا حوْقلات، واستغفارات، وأدعية بألسنتهم، ولعنات بلا حدود في قلوبهم. حامدين الله أنه لا تتم قراءة ألواح الصدور في هذه اللحظات… وحزن الآخرون، وخصوصا من صفق له منذ قليل قبل كل الآخرين، والذي كان أول صاعد على الدرجات كأيِّ أمينٍ على العرش، للتأكد من وفاته، أي وفاة السلطان… بينما اتجه حامل التوراة نحو مواطن آخر رآه منذ قليل يدفع للحارس رشوة، وأخذ يُصبِّرُه، ويُمنيه بالصعود بعد انتهاء مهرجان نقل الجثة إلى مثواها الأخير، وأنه طالما هو إلى جانبه، فلن يعترض عليه أحد…!
خالد بريش
باريس في 15 / 07 / 2018
عذراً التعليقات مغلقة