الطَّريدة
عبد النور مزين
——–
روائي من المغرب
كيف كان لي أن أصوغك أسطرا من نار بين دفتي كتاب؟
لم تكن يا سالم إلا عبير الغابة الموحشة، ولم تعبرني بل أقمتَ في تضاريسي أثرا فيما توالى من أيامي وحرائقي، كلغم الفدائي تماما، يحمي ثغور جسد لي حتى في الغياب.
هكذا كبر ما خطته يداك من حرائق على خصري، ليزهر حدائق نارٍ وحقول ألغام.
من أي عميرة صُب شهد عينيك يا ابن مازا، كي تتشرب عينا شمس الضحى ماءك العسلي؟ وعينا مازا كانتا نشيد الحزن وكانتا رقص الظلال.
أتذَكر وأنا في باريس أجلس إلى الذاكرة، حين يستوي القدر في تجلياته النادرة، كل الفرح الذي تحدثَت عنه. الفرح الجاف الذي علق على مرود أمها لينام على سفوح عينيها العسليتين.
الفرح الجاف لا يزهر سريعا.
لا يزهر إلا بعد أن يجف الدمع وينضح في الروح الماء الأول للبحر والنهر والجدول البعيد. الماء الأول للنبع. هكذا قلت لي تلك الليلة البعيدة في درادر والبدر يستوي في السماء وهجا من مرمر الجسد. ونبع أم مازا، جدتك يا ابن مازا، غار نهرا في صحاري القبيلة وظل لحنا هادرا يسقى أوصالي بين يديك.
بين مكناسة وأبواب الريح رنين طويل من الدمع والأصفاد.
هكذا حكت مازا صمت الدور الكبيرة والأسياد. من زاوية لزاوية تنساب الأيام ليجف الزمن كما يجف الفرح الفار من أفق الأحلام. كيف كان لي أن أكتب أثرا من أيام السفر الطويل يا سليل الأمهات وصمت الدور الكبيرة والأسياد.
أم مازا.
ذاكرة صامتة على طريق الرحيل الطويل.
سمراء من شهد غابة في البعيد، البعيد.
مكناسة لم تكن موطنا
مكناسة كانت الواحة، وكانت مكناسة السراب.
والدور الكبيرة على طول الطريق، أيها الخلاسي، سرايا للحريم والوجع المخنوق للحلم الطريد.
تماما كوجع القبيلة.
تماما كقيود القبيلة، لا تكبل إلا على مشارف الآفاق، الحلم الشريد.
ولم تكن أبواب الريح موطنا
ولم تكن إلا طريقا آخر. لم تكن إلا جسرا بين جنونين.
ولم تكن إلا عبورا.
هكذا رسمت بعضا من سيرة العسل أيها الخلاسي.
صمت القفير وذاكرة الرحيل كما عرفتُ لاحقا.
أم مازا التي نسيت أن تحكي أصل غابتها، لتُنبت الشهد وتبني، في مكناسة، من القفير وطنا، ما تزال تكبر في أمنياتك أيها الخلاسي حتى وأنت في قعر البئر تعد ضحكات السماء الزرقاء فيما يلي قضبان الحديد التي تسد فوهتها.
ما تزال أم مازا تكبر في أمنياتك كما كبرت في أمنيات مازا من قبلك.
هكذا يندلق بعض من عسلك أيها الخلاسي في (رقصة النار).
عندما كنت أنظر إلى سيرة هذا الجنون وأنا في باريس، غصت عميقا في جنونك أنت يا سالم.
كلانا كان ضحية الجسد اللعين. لن ترض عنك القبيلة أيها الخلاسي حتى تخلع جلدك وتلبس جلدها، كما لم ترض عني. كيف كان لي أن أخلع جسدي لتستعيده القبيلة.
وجنوني مثل جنونك.
لم أملك يوما جسدا لي، فعشت جنوني في هذا الشيء اللعين المستعار حتى استحال رقصةَ أفعوانيةٍ تهدد كيانه في العمق بارتداداتها وعبورها المستمر من جنون إلى جنون.
ورقصة النار لم تكن أيها الخلاسي إلا شعلة من لهبك ولم تكن كل الحريق الذي اجتاح كل شيء.
الحريق مهما عظم يا سالم، ابن شرارة واحدة وشعلة واحدة.
واللهب، لهبك يا ابن مازا، لهب الحريق القديم.
حريق القبيلة الذي سيأتي على كل شيء. على كل شيء.
كنت تعرف كل شيء قبل أن تنساب، في غيابي، مع ذاك التيار داكن الخضرة. كم مرة قلت لي ألا داعي لذكرهم. الحريق لديهم ليس كحرائقنا نحن. كنت أصمت وأنظر إلى شهد عينيك وكان هذا الجسم اللعين يشهق في صمت. يضم جمر ندائك الحارق وينصت في خشوع القانتين إلى خشخشة اللهب في دواخلي وبحر الغندوري سهل رصاص اللون.
حكيت لك عنهم كلهم وكنت تعرفهم وتعرف حرائقهم كما عرفت لاحقا عن عيني شمس الضحى العسليتين لتحترف الغياب وتتركني طريدة جريحة محاصرة بين أنياب الذئاب.
الذئاب يا سالم لا تفصح عن كنه سلالتها إلا عندما تجتمع قبيلة حول طريدة.
لم اعرف ذلك إلا لاحقا وأنا أعود كل مرة لأتوقف رغما عني لألقي بنظراتي من على جسر السان ميشيل على مشارف الشاتلي وأتابع تيار الماء داكن الخضرة عساه يأخذني إليك أينما كنت يا ابن مازا.
كان سهل الغندوري، إلى الشرق من طنجيس، رصاصي اللون كبحر الشمال، وكنت طلقة على درب الجنون تنتظر أمرا ما، ليد ترتعش على زناد.
وكنا نعرفهم كلهم كما نعرف جمرنا منذ ذلك اليوم البعيد في درادر على مشارف المرجة الزرقاء. هناك حين اقترفنا بعضنا وأدركنا ليل القبيلة.
كنت تعرف حورية التي عانقت البحر وكيف اصطفوا على الشط ينظرون إليه في قمة نشوته وهو يلقي بكل شيء في زئيره المخيف. كان قد اختلى بها في خدره الخفي. حورية التي عانقت البحر كنت تعرفها وتعرف جمرها أيها الخلاسي. هناك في باريس حيث تخضر الذاكرة كنبتة وحشية نهمة لخلطة من وميض الجنون ولهاث الجسد المحاصر من أباشة الذئاب.
تكبر الذاكرة وتمتد جسرا آخر يمتد أمام الطريدة. وكنتُ في باريس طريدة لأكثر ن قبيلة.
——-
فصل من رواية، تصدر قريبًا- خاص بصحيفة قريش/ملحق ثقافات وآداب
عذراً التعليقات مغلقة