تداخل الشعري والسردي في ديوان “ملَّكتها قدري”
للشاعر المغربي محمد شنوف
د.فاطمة مرغيش
————–
ناقدة من المغرب
يعزف محمد شنوف على وتر بحر الخليلي ، ويخلق عالما شعريا يغري بالغوص فيه دون الخوف من السقوط في استرجاعات تراثية محضة لا تمد يدا إلينا في واقعنا.
وتطرح قصيدة محمد شنوف تجليات بلاغية كثيرة ، اخترت أن أقف عند إحداها وهي “تداخل الشعري والسردي في قصائده “.
وعندما نقول تداخل الشعر والسرد في القصيدة ، فإننا نتكلم عن تقنية فنية عرفتها القصيدة العربية منذ ولادتها، بحيث لم تكن هذه الأخيرة جنسا نقيا أبدا ، وقد ساعد على ذلك ما طبع القصيدة العربية من غنائية ونفَس ملحمي ، فإذا أخذنا معلقة عمرو بن كلثوم ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ نموذجا ، نجدها تتضمن سردا متكامل العناصر، من حدث يتنامى وفق بداية ووسط ونهاية، حيث يرتفع صوت عمرو بن كلثوم مهددا الملك عمرو بن هند مذكرا إياه بأمجاد بني تغلب، ومستنكرا ما فعلته والدة الملك مع والدته..إنها قصة كاملة من حدث وشخصيات وزمان ومكان ..
وتأتي القصيدة الحديثة في منتصف القرن الماضي، أو لنقل القصيدة الحرة ( لأن مصطلح الحديث يفتح الباب للقصيدة العربية منذ عصر النهضة إلى الآن )، لتحطم فكرة “النص المنفرد ذي الدماء النقية”، التي فرضتها الثورة الحاصلة على شكل القصيدة العربية ومضمونها، وفق الانفتاح الحاصل على الآداب الغربية والثقافة الإنسانية بصفة عامة، حيث تعمق وعي التجديد الذي بدأته نازك الملائكة، فتعددت الأشكال البنائية للقصيدة العربية، وأصبح السرد آلية فنية مهيمنة على القصيدة الحديثة، هذه الآلية التي كانت موجودة لدى الشاعر الكلاسي ـ كما سبق وذكرنا ـ لكنها مع الشاعر الحديث عرفت تغييرا طرأ على كيفية الاستخدام وإمكانية التنويع والخروج عن القوالب الجامدة المتوارثة، وذلك ناتج عن الإفادة من عناصر الفن الدرامي، والقصة القصيرة ، وتقنيات السينما والمسرح ، إذ اختفى البناء الكلاسي لقصيدة السرد المتمثل في ” البداية ، التنامي ، ثم الحل ” ، لتعرف القصيدة تداخل الأصوات ، وتنوع البدايات والنهايات المفتوحة ..” وكان صلاح عبد الصبور من أبرز الشعراء الذين تمثلت في قصائدهم عناصر السرد والدراما.
ومما يجب إضاءته ، هو أن السرد في الشعر ، ليس سردا حكائيا قصصيا ، يقصد القصة ، ولكنه سرد تعبيري وآلية من آليات التصوير الشعري ، إنه سرد تعبيري جمالي.
وقصيدة محمد شنوف تقدم نفسها منفتحة على جنس السرد ، انفتاحا بلاغيا يهدف إلى تشكيل صور شعرية تخدم رؤية الشاعر الفنية ، وبمقاربتي لنصوص من ديوانه ” إليك ِانتهى الأمر” ، وجدت أن القصيدة في هذا الديوان تقوم على بناء سردي واضح المعالم ، تظهر ملامحه الأولى بدءا من العنوان : إليك انتهى الأمر ، حيث جاء العنوان جملة فعلية تنقل حدثا ، وهو أمر ما قد أصبح في يدها هي ، مع حضور شخصية مضمنة في ضمير المخاطب ( الكاف).
يستدعينا العنصر السردي ” الحدث” في الديوان إلى تتبعه ، حيث وظفه الشاعر توظيفا جماليا أغنى الصورة الشعرية وجعل القصيدة صورة ناطقة قريبة من تداعيات الذاكرة عند المتلقي.إذ يبدأ الحدث ـ مثلا ـ في قصيدة ” ملَّكتها قدري ” بداية دينامية ، يقول الشاعر:
أشتاق ذاتَ هوىً يغلي مدار دمي
والنبـض وزَّعه لحنا مدى نُظُمي
عهدُك طيف كرَى ، أغفو أعاوده
أصـحو أُبـــدِّده كالـغزْل في لِمــمِ
يالــيت لي ردداً أمســــي أخــلده
أحياه معتــكفا في حضنها حَرَمي. (ص 40)
تخبرنا البداية مباشرة بأن الشاعر يعيش معاناة وجدانية بسبب شوق وحب مستعصيين، يستمر الحدث في التقاط لواعج الشاعر وتوظيفها في سيرورة لا تقصد الانضباط للسيرورة الكلاسية ( بداية، عقدة، حل) ، ولكن تهدف إلى ترك العنان منفلتا لبوح الشاعر، حيث تقصد أحداثا كاشفة لذاتيته بانسيابية وتنامٍ خاصين ، إذ يجعل من لحظة الوسط في القصيدة لحظة ارتخاء وهدوء نفسي بدل العقدة ، حيث يغرق في رسم صورة المحبوبة رسما غزليا جاعلا لحظة النهاية عودة إلى التوتر والشكوى والألم.
إني لجــــــأت إلى الأشعـار أبـــعثها
طـيفا أراقصه من عازف الألـــــــم
وجْدي صحائفها من ذكراها امتلأت
والحبر أوردتي يَهذي بــــــــها قلمي
تبقى هنا أبدا في الوجد مابـــــرحت
ملُّكتُــــــها قــــدري ختما لها بــدمي. (ص 48/49)
إن الحدث في النص هيَّأ مساحة تمدّدَ فيها السرد ليفسح المجال لبوح غير محدود،كأن يأتي بالتتابع ، لم يكن الهدف منه الإطالة والحشو وتمطيط السرد، بل كان الهدف منه الإبانة وتوضيح التفاصيل عن طريق سارد يفصح عن نفسه في شكل ذات بضمير المتكلم ، كما هو في كل نصوص الديوان ، يقول الشاعرفي نص : ” يئن اللحن في وتري ” :
أنا طــفل إذا أحـــــــــــببت
أنا شــــــــــيخ بأفيـــــائي (ص 26)
وفي: ” سُقياً للجوى “
مسافر في المدى أجتاب طهر رؤى
لا أبتـــغي بدلا للــزاد من صـُفُـــني ( ص 18)
إن سيرورة الحدث في قصيدة محمد شنوف، قرَّبتنا من ذاتية الشاعر وغاصت بنا في تفاصيله الداخلية، دون أن تركب على موجة التأثير في المتلقي عن طريق الخطاب الصوتي المنفعل، والموسيقى التطريبية التي يمكن أن يعزفها الوزن الخليلي .مما ساعد على انحسار الوصف فيها بشكل أفقي.
يزيد تداخل السردي والشعري في قصيدة محمد شنوف من خلال تقنية الحوار، وهي تقنية يستدعي من خلالها الشاعر العنصر الدرامي، حيث تتعدد الأصوات في القصيدة الواحدة، وبمظاهر سردية متنوعة مابين رؤية من الخلف ورؤية مصاحبة وخارجية، تلجأ إلى توظيف تقنيات السرد والاسترجاع والتلاعب بالضمائر.
يقول في قصيدة ” إليكِ انتهى الأمر “، والتي سمي الديوان باسمها:
لكم قلتِ مرجعــــنا ما اختلفنا
إلى الحب حكـــما أدام علاكِ
وقلتِ غدا نلتــــقي بعد صيف
أصفت ، خَرِفت ، فهل من شِتاك (ص58)
ويبقى الحوار الداخلي مهيمنا على نصوص الديوان في استذكار منغلق بالتأمل الصامت، والحميمية وطرح الأسئلة، والبحث عن إجابات في تداعيات ذهنية نقاشية بعدم وجود مستمع قريب ، أو لكونها أسرارا لايمكن انتهاكها، يقول الشاعر في حوار وتماه مع ذاته:
ياليت لي رددا أمــــــسي أخــلده
أحياه معتكفا في حضنها حرَمي
كم تهت من مَرَرٍ في الليل أنــدبها
والــروح تنشـــــدها فجرا على قِمم
أبيت أنحت من صبِّ الهوى صوراً
حتى لأبصرها كـــالربِّ من صــــنَم (ص 40/41)
إن الحوار في نصوص محمد شنوف تقنية تصويرية تهدف إلى كشف الذات لوقائعها وانفعالاتها، ورسم الصورة الشعرية بألوان الداخل في انسجام وتعالق عفوي بين البنية السردية والبنية الحوارية، حيث ينتقل السرد انتقالا سلسا من شكله الحكائي إلى الحوار، ليحصل الإدهاش من خلال تكسير أفق التوقع وإدخال الجملة الشعرية في اللامتوقع ، وقصيدة ” ضفاف صدى ” تصور هذا الانتقال العفوي ، يقول الشاعر:
شفتاها شاحبتان
ضفاف صدى
تستجدي الوجد
صـــداقَ هوى
تستسقي نخب سؤال
تلو سؤال:
كم تُبقي الروحَ وعود مِطال؟
هل يطفئ نارا
طيفُ ظلال؟
هل يُخصب زمزمُ شعرٍ
حلمَ رمال؟
قالت:
إني أنذرتك من قَدرٍ
لو ينفع قلباً
ويحٌ من أقدارْ..
إني قدَّرتُ على قَدري
أن أحيا لولؤة
في غيهب نجوى
لا يُغلي من مهري
غوصُ بِحار.. (85/86)
إن الحوار في هذا النص خروج من الغنائية الشعرية ، ووسيلة للتعبير عن الرؤية المتعدد، مع نجاحه في التموقع وسطا بين المناجاة والخطاب السردي ، معتمدا على فعل الحكي الإنجازي ” المضارع” : ” تستجدي ـ تستسقي ـ ينفع ـ يُغلي..” وبهذا فالشاعر السارد يقترب من الآخر معتمدا رؤية من خلف ، من دون أن يكون شخصية مقحمة في حكاية القصيدة، حيث تمكن من تمرير ما شاء من أفكار ومشاعر دون تدخل صارخ ومباشر.
إن التتبع الذي قمنا به لعنصرين سرديين في قصيدة محمد شنوف ” الحدث والحوار” باعتبارهما خطين عريضين لملامح السردي في شعره ، كشفا عن أن الخطاب الشعري يمكنه أن يكون خطابا شموليا مكثفا ، ينفتح على آليات فنية متنوعة ، منها آليات السرد التي تؤدي وظيفة جمالية واضحة ، متمثلة في إضفاء حركية على النص ، وفتحه على أبواب مختلفة من التلقي والتأويل، في تماهٍ مع التجربة الشعرية العربية الحديثة التي لا يمكن أن تتنفس وتعبر عن ذاتها داخل حدود ثابتة لا تتغير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد شنوف : ديوان إليك انتهى الأمر/ مطبعة مرجان/ مكناس- المغرب
=====
خاص بصحيفة قريش/ ملحق ثقافات وآداب
عذراً التعليقات مغلقة