فسيفسـاء وجمالية التّفاعل في المنجز الشّعري النّسائي ما بعد الحداثي

28 أغسطس 2018
فسيفسـاء وجمالية التّفاعل في المنجز الشّعري النّسائي ما بعد الحداثي

 

–  الشّعر النّسائي إفرادٌ أم تعدّدٌ ؟ !

 

رزيقة بوشلقية

———–

ناقدة من الجزائر

 

لقد ساهم التحوّل المعيشي والتّاريخي والسوسيولوجي، الذّي مسّ المجتمع الغربي بعد نهاية الحرب العالمية الثّانيّة، في تغيير نمط العيش الذّي أصبح يتأسّس على الاستهلاك فغدا « الاستهلاك هو محرك المجتمع ما بعد الحداثي »، بعد أن ساهمت الثورة الاستهلاكيّة في خلق مجتمع ما بعد صناعيّ كمحصلة للتحوّل التّاريخي الذّي شهده الغرب، مسّ هذا التحوّل والتّغيّر أغلب المفاهيم السّائدة، فنادى مفكّرو ما بعد الحداثة بالتّشتت مقابل الوحدة، والمركز مقابل اللاّ مركز، وعن السّطح مقابل العمق، وهذا ما أكّده تشارلز جينكس Charles Jenks فى كتابه ما بعد الحداثية: الكلاسيكية الجديدة في فنّ العمارة ” يرى أنّ أسلوب الحداثة هي فنّ العمارة: فرأى أنّه أسلوب يقوم على مبادئ ” الوحدة ”  و” البساطة ” و “الوظيفية ” وفى مقابل هذا الأسلوب تبنت ما بعد الحداثة مبدأ ” التّشظى ” و” التنافر ” فطرحت من خلالهما أسلوباً يتخلى عن النّموذج المثالي القديم للعمل الفنّي المتكامل([1])، الذّي لا يمكن الإضافة إليه أو الحذف منه دون الانتقاص من قيمته.

فنحدّد مصطلح ما بعد الحداثة باعتباره – الذّي ظهر في الولايات المتحدّة الأمريكيّة – التحوّل والتّغير الذّي مسّ الثّقافات الغربيّة بعد نهاية الحرب العالميّة الثانيّة.

أمّا إذا عدنا إلى العمل الأدبي ما بعد الحداثي فهو يأتي – غالبا – في صورة عمليّة إلصاق لعناصر غير منسجمة دون أدنى اكتراث بتحقيق الانسجام، فتبدو الرّواية مثلا مجرد عمليّة إلصاق لمجموعة نصوص منتميّة لأجناس متنوعة، وكذلك الأمر نفسه بالنسبة للشّعر الذّي كسّر الحدود بينه وبين الأجناس الأخرى، فتسعى السّاردة الشّاعرة ما بعد الحداثيّة إلى خلق تباين مختلف داخل العناصر المكوّنة للمنجز الشّعري النّسائي، من خلال الرّبط بين معالم لغويّة سردية وأخرى شعريّة على عكس ما فعلته الشّاعرة الحداثية، لذا فإنّ أغلب الدّراسات ما بعد الحداثيّة  تركّز على فكرة التّشظي والاضطراب النّسقي.

فتجلت الكتابة المتشظيّة عند الشّاعرة المغربيّة ” وفاء العمراني ([2])” من خلال قصيدتها “بقايايَ التّي أتعبتني”، التّي جاءت لتعبّر عن هذا الخرق للموجود والتّشظي الذّاتي، بعد أن تبعثرت أناها لم يبقَ لها إلاّ أنْ تُلَمْلِمَ بقاياها المتشظيّة المتبعثرة، فحَكَمتْ عليها هذه الأنا الذّاتيّة المتشظيّة ( بقاياي ) بالعذاب الأبدي، جاءت لغتها الشّعريّة السّرديّة في منظوم الحكي الشّعري في قصيدتها ” بقاياي التّي أتعبتني ” كما يأتي:

بَقايَايَ الَّتي أتْعَبَتْني/ أَحْمِلُها صَخْرَةً/ أنُوءُ بهَا تَحْتَ شَرْنقَاتِ/ العُمْرِ/ أُمَوِّهُهَا/ وَأَرْتِقُ خُيُوطَ عُزْلَتِهَا/ تكبُرُ نَاضِحَةً في مَرايَا/ الأيَّامِ/ َترْعَى فَرَحَ الأشْيَاءِ الَّتي/ غَادَرَتْني سَريعاً/ ولَمْ أُغَادِرْهَا/ آخَانِيَ الرَّحيلُ/ وَنَشَبَ حِكْمَتَهُ/ في أنْفَاسِي/ أَظَلُّ أصْعَدُ فَجْرَ كَلِمَاتي/ أَسْتَنْبِتُ عُشْبَ نَايَاتِهَا/ تَخْرُجُ خُطُوَاتي مِنْ ضَوْءِ/ شَكِّهَا/ وَتهْدرُ في غَوْريَ الدُّرُوبُ؟؟؟/ بالـمَوْجِ أعْجِنُ خُبزَ طَرِيقي/ بَيَاضٌ فِي الوَقْتِ/ بيَاضٌ في السَّريرَةِ/ بَيَاضٌ فِي الأبْجَدِيَّةِ/ صُدِرَتِ الأَلْوَانُ عنْ/ صَوْتي البَاقِي/ لاَ مَكانٌ/ لي رحَابَةُ البَشَريَّةِ/ وَلوْنُ البَهاءِ/ ومَا لا يُطالُ منْ جَدَائِلِ/ السَّمَاءِ/ بَقايايَ الَّتي أَتْعَبتْني/ ترْحَلُ بي إلَي ذِرْوَةٍ/ في اللاَّزَمَنِ/ تَقْدَحُ وَرْدَ/ الأحْزَانِ/ وتُنْعِمُ عَلى القَلْبِ/ بِنَيَاشينَ منْ أَهْوَالِ/ الوَفَاءِ/ أَنْتَسِبُ إلَيْهَا/ وَأُخْرِجُ مِنْ ضِلْعِيَ/ الـمَكْسُورِ/ غَيْمَةً تروي كُلَّ هَذَا/ الهَبَاء/ مَا شَكْوَاكِ يا ريحَ الأعْمَاقِ/ الآهِلَةَ بالأَعَالي؟!/ لكِ غبطةُ الكَلامِ/ وَلِي أنْ أسْلِمَكِ ظَمَأى/ وَأَقْرَأَ في وَادِي الحَوَاسِّ/ مَعَانِيَ الصَّحْرَاء؟؟؟/ ضَوْؤُكِ، بقايَاي،/ حَضَّانَةٌ لِنُبُوَّةٍ مَنْذُورَةٍ/ جَعلَتْني أجْمَلَ منَ الـمَوْتِ/ وَأشْهَى منْ رَحيقِ/ الَحيَاة/ تَحِيَّةً لِخُضْرَةِ الجِرَاحِ/ عَلَى الجَبينِ/ أُوقِظُ رُوَاءَ الرُّوحِ/ وَأعْزِفُ، اليَوْمَ،/ عَنْدَلَةَ الصَّبَاح؟؟؟/ بَقَايَايَ الَّتِي أَتْعَبَتْنِي وَأَنَا/ نتَوَغَّلُ سَوِيًّا إلَى أَعْلَى/ وَأَنْأَى مِنِ اجْتِرَارِ هَذَا الظَّلاَم/ بِانْتِظَارِ أَرْضٍ للْقَرَارِ/ وَقَلِيلٍ مِنْ فَرَحِ السَّمَاء ([3]).

تعبّر الشّاعرة  وفاء العمراني من خلال قصيدتها – هذه –

عن تجربة شعريّة خصبة فتجعل من أسطورة سيزيف([4]) الماكرة حسب الميثولوجيا الإغريقيّة، إحدى التّقنيات القِناع في تحديد سيرورة هذه القصيدة، وتعيين معالمها اللّغويّة الأسطوريّة، تقول:

بَقايَايَ الَّتي أتْعَبَتْني/ أَحْمِلُها صَخْرَةً.

تحاكي الشّاعرة من خلال قصيدتها ” بقاياي التّي أتعبتني ” أسطورة سيزيف بلغة سرديّة شعريّة فتغدو الشّاعرة السّاردة بطلة حكيها، حيث تسلّط عدستها على هذا الفضاء الخراب الذّي لم يُبْقِ لها سوى أشلاء منثورة هنا وهناك، وفي محاولتها للَـمِّ هذا الشتات تصاب بالإنهاك، جسدٌ أنثوي أتعبته الحياة، فتسعى السّاردة الشّاعرة إلى ترقيع خرق جسدها بلغة إيحائيّة، فتحمل هذا الشتات على ظهرها ولم يأتِ هذا في صورة مباشرة ولا تحمل المعنى الدّلالي الظّاهر، وإنّما تأتي البنيّة العميقة لتحمل ثقل انكساراتها وهزائمها، تماما كثقل الصخرة على ظهر سيزيف، فتصوّر لنا السّاردة كلّ هذا في صورة دراميّة متحركة، تقول:

بَقايَايَ الَّتي أتْعَبَتْني/ أَحْمِلُها صَخْرَةً.

كما نلمح اهتمام السّاردة بهذه البقايا، محاولة ترقيع ما بقي من ذاتها المتشظيّة، ليس مجرد اهتمام خارجي – فحسب – وإنّما كاهتمام الأمّ بجنينها، حيث تسعى جاهدة إلى حماية ما في أحشائها منذ تشكّله كمضغة إلى أن يتطوّر ويكبر ويخرج إلى الحياة     سليماً، فتسرد لنا قصّة تطوّر البقايـا وتطعيمها لتغدو كاملة، فتظهر تمثلات الأمّ واهتمامها ببقاياها في نصّها فيما يأتي:

أنُوءُ بهَا تَحْتَ شَرْنقَاتِ/ العُمْرِ/ أُمَوِّهُهَا/ وَأَرْتِقُ خُيُوطَ عُزْلَتِهَا/ تكبُرُ نَاضِحَةً في مَرايَا/ الأيَّامِ.

تحاول وفاء العمراني الاهتمام ببعض أناها المتبقية، بعيدا عن صخب الحياة، فتجمع بين شرنقة الدّودةوشرنقة بقاياها، تظل تحافظ على شرنقتها وتزخرفها وتُرتّقُ خيوطَ العزلة، فتتجلى مرحلة الاهتمام بجنينيّة البقايـا إلى أن تكتمل أنا أنثويّة سليمة ناضجة، تقول:

تكبُرُ نَاضِجةً في مَرايَا/ الأيَّامِ.

ومع مرور الأيام تنضجُ وتُلَمْلَمُ هذه البعثرات والشظايا الذّاتيّة، فاستطاعت السّاردة أن توظّف في قصّتها ” لملمة بقايا أناها” أفعال المضارعة، للتّعبير عن هذا التّطوّر والتحوّل من حالة إلى أخرى، من حالة الشرنقة إلى الكائن الحيّ النّاضج، ومن شتات أشلاء الجسد الأنثوي إلى جسدٍ بتصوير كاملٍ، وتأتي الأفعال المضارعة موزّعة في نصّها كما يأتي: أتْعَبَتْني، أنُوءُ، أُمَوِّهُهَا، أَرْتِقُ، أُغَادِرْهَا، أَظَلُّ، أصْعَدُ، أَسْتَنْبِتُ، …الخ، تساهم كلّ هذه الألفاظ في إضفاء الجوّ الحركي للنّص، فتعكس الدّورة الحياتية لتلك البقايا، التّي تتعيّن من خلال الولادة الأولى للسّاردة الشّاعرة، ثمّ تليها مرحلة الموت الذّي لم يُخلّف وراءه سوى أشلاء وشظايا من هذا الجسد المنهك، ثمّ تأتي مرحلة إعادة البعث من خلال إعطاء الحياة لهذه البقايا وإعادة لملمتها من جديد.

استطاعت وفاء العمراني من خلال تجربتها الكتابيّة أن تخلق إلى جانب واقعها     البسيط، عالماً أكثر تحرّرا وكمالاً، إنّه عالم المثال وهي تقودنا من خلال قصتها السّرديّة – هذه – إلى أن نراقبها وهي ترعى بقاياها حتى تكبر مع الأيام، وتُدخل البهجة إلى قلبها.

ورد المحكي الشّعري في نصّ الشّاعرة السّاردة بضمير المتكلّم ” أنا “، حيث أنّ تعبير السّاردة عن تجربتها الشّخصيّة فرض عليها نمط الحكي السّردي، لأنّها تسرد تفاصيل الأنا الأنثويّة، وحين تتجاوز الشّعري إلى السّردي تكون بذلك تؤسّس عالمها الشّعري والصوفي، إنّها لا تضحّي بالشّعر لصالح السّرد، وإنّما تستند إلى السّرد من أجل سرد الأحداث والوقوف عند التّفاصيل ([5]). فجعلت من النّمط السّردي الطّريقة المثلى للتّعبير عن حركيّة الأفعال والتحوّل الميتافيزيقي والوجودي.

والملاحظ في القسم الثّاني من ديوانها “حين لا بيت “ الموسوم ب ” شظايا ” والذّي يحوي على سبع قصائد نوردها كما يأتي: ( الخطوة، رؤيا، مرآة، انتظار، شرنقة، رجل في الستين، مساؤها )، تحاول في هذا القسم أن تتبنى إستراتيجيّة جماليّة ما بعد حداثيّة ألا وهي ” التّشظي “، إذ ترتكز فيه على كتابة نصوص متناثرة ومتشظيّة دلاليّا، تقول:

 » ينضو سترة الثامنة والنصف المغبرة 
وفى كامل أناقته الخريفية 
يخرج صباحا 
ليسحب الزمن الناضج 
إلى رئتيه 
على حافة الممشى 
تنتظره فى كامل مشمشها 
امرأة هيأت له
الأربعين « ([6])

بدأت الشّاعرة وفاء العمراني في ديوانها ” حين لا بيت ” تنفتح على الحساسيات والرؤى المختلفة للجيل الجديد من الشّعراء، ممّا جعل القسم الثّاني من ديوانها الموسوم ب: الشظايا يلتحف بلغة التّفاصيل اليوميّة، تقول:

في آخر اليوم

   تطبع قبلتها على جبين طفولة الروح

المشروخة

توارب الباب والحواس

في طريقها إلى غرفة النوم

يسحبها المكتب البارد

يدثرها

بحزنها المسائي الوفي

ويدعوها كي تنثر خمائل أنوثتها

فوق رهان البياض

هذا البياض !!([7])

 

تنطلق وفاء العمراني في تأثيث عالمها الشّعري السّردي من الواقع المعيش، فتصف لنا في المقطع – السّابق – الأجواء اليوميّة لحالة كتابة الأنثى، لتجعل بعد ذلك من مادة الحكي الشّعري مادة سرديّة تتخذُ من تفاصيل الحياة اليوميّة سبيلا إلى صناعة المعنى.

استطاعت السّاردة ترحيل أشياء العالم المادية الجامدة إلى عالم أكثر حيوية ألا وهو الشّعر أو عالم الكتابة النّسائيّة بصفة عامة، وتجريدها من معانيها الثّابتة، وتتويجها بمعانٍ جديدة تقتضيها الجغرافيا الشّعريّة المغايرة، تقول:

في طريقها إلى غرفة النوم
يسحبها المكتب البارد
يدثرها
بحزنها المسائي الوفي
ويدعوها كي تنثر خمائل أنوثتها
فوق رهان البياض ([8])

تأتي الأفعال: يسحبها، يدثرها، حزنها، يدعوها منسوبة إلى ” المكتب “، حيث استطاع المكتب أن يتجرد من صفة الثبات ليغدو إنسانا يتحرك، ويسحب، ويدعو الغير لفعل أشياء، هذا المكتب الذّي يقع عليه فعل الكتابة أصبح هو المحفّز والدّافع للكتابة أي أنّها شخّصت المكتب، وجاء كلّ هذا في نصّ الشّاعرة بلغة سرديّة، حيث تحوّلت قصيدتها إلى حكاية، وديوانها إلى رواية شعريّة، هكذا استطاعت السّاردة أن تتخذّ من السّرد طريقا للقول الشّعري، ويمكن التّمثيل – هنا – بما قاله ” أبو حيان التّوحيدي ” في كتابه ” الإمتاع والمؤانسة”: « أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنّه نثر، ونثرٍ كأنّه نظم » ([9])، يبدو التّجريب الشّعري بارزاً من خلال التّزاوج الحاصل بين الشّعر والسّرد، حيث ساهمت الصّورة الشّعريّة في إضفاء الحركيّة التّي تتناسب والنّمط السّردي، كما عملت الصّورة المشهديّة – أيضا – في تحقيق السّرديّة داخل النّص الشّعري.

انطلقت السّاردة من اليوميّ، ولكنّها سمت بها إلى آفاق الشّعريّة، وقد تأتى لها ذلك من خلال قدرتها على ترحيل الأشياء اليوميّة إلى عالم الشّعر، فيصبح ( المكتب ) رمزا محفّزاً يدفع المرأة الكاتبة إلى الخوض في غمار التّجربة الكتابيّة النّسائيّة.

كما تقودنا الشّاعرة الجزائرية ” حسناء بروش ” من خلال ديوانها ” للجحيم إله آخر ” إلى خطاب متشظٍ، دائم التحوّل والتّفكّك، ونحن نحاول التقاط تلك الشظايا، التّي تعتنق فيها حسناء كلّ الأجناس وتكسر الحدود الفاصلة بينها، وفي هذه المزاوجة بين الأجناس تنديداً بولادة جنس جديد يجمع بين الأجناس المختلفة في بوتقة واحدة، فهل استطاعت حسناء بروش في منجزها الشّعري– ذاك – أن تستجيب لتحوّلات خطاب ما بعد الحداثة الذّي ينبني أساسا على « البعثرة وعدم الانتظام والفوضى المستمّرة » ([10])، وتتجلى هذه البعثرة على مستوى الشّكل أوّلا، حيث عملت ” حسناء بروش ” على عدم إدراج نصوصها ضمن ديوان شعر أو رواية أو قصّة، وإنّما ورد المؤشر التّجنيسي في الصفحة الثّانيّة، حيث تمّ تصنيف هذه النّصوص ضمن « فصوص » ونستحضر – هنا – كتاب فصوص الحكم لابن العربي الذّي يتحدث فيه عن الأسرار      الإلهية، حيث بنى ابن عربي كتابه ذاك على ثلاث حقائق وجوديّة: الله والكون والإنسان، وهو نفس ما سارت على نهجه حسناء بروش التّي استقت فكرها من الفكر الصّوفي، فتتحدث عن حقائق الآخر، والوجود، وعلاقة الإنسان مع الكون ومع خالقه، تقول في قصيدة ” خلخلة “، التّي نلاحظ من خلال عنوانها، عدم ثبات الفكر البروشي كونه ينتقل في إرساء معالمه من أسئلة فلسفيّة يستحيل القبض عن دلالتها وإيجاد إجابة محدّدة لها:

الإلـهُ الذّي يعتلي الوقتَ

مُذْ رَغْبَة مُوغلهْ..

مُنْذُهْ..

والسّماوات عن كُلَّتي

مُقْفَلهْ..

مُنْذُه…وأنا

هَا هُنَا…

…………

الإلـهُ الذّي يرتدي رَغْبَتِي

كأنني رَغْبة أسفَلَهْ.. ([11])

كَمْ هُنا..

كُنْتُ …لَـهْ

كَمْ هُنـا..

صِرْتُنِي عِلّة الخلخلهْ.. ([12])

 

نسافر في شعر حسناء بروش على قوارب كلمات فيها من الأساطير الإغريقيّة، وعالم الآلهة، ما يكفي لتحقيق كيمياء التعالق النّصي الأدبي، حيث استطاعت في أسطرها هذه أن تجمع بين الشّعر والسّرد والأسطورة، تقول في مطلع قصيدتها: ( الإلـهُ الذّي يعتلي الوقتَ )، وهنا إشارة إلى إلـه الزّمن في الميثولوجيا الإغريقيّة وهو الإله خرونوس، كما ورد اسم إلـه آخر وهو إلـه الرغبة إيروس  Eros، من خلال قولها: ( الإلهُ الذّي يرتدي رَغْبَتِي) ولم يكن اختيار الشّاعرة لهذا الرّمز الأسطوري عبثا، وإنّما لتخلق في نصّها خلخلة وعدم التّوازن الذّي يجسده أوّلا صراع الآلهة في حدّ ذاته، إذ جمعت في الكون النّصي بين  إلاهين، هذه الحقيقة النّصيّة في شعر بروش التّي تنفي الحقيقة الوجودية ( اله واحد) .

فجاء النّص ما بعد الحداثي ليوفّر للمؤلف أدوات جديدة تمكّنه من تشكيل وتوليد دلالات مغايرة، وهي الأدوات ذاتها التّي تتحقّق بها تحوّلات الكتابة ما بعد الحداثيّة، وذلك باعتبار أنّ هذا الشّعر قد قال « رؤاه وخلق عالما مختلفا » ([13]) وهو عالم الكلمة الإلهية، وهي الكلمة السلطويّة – حسب باختين – في نصّ الشّاعرة حسناء بروش، وتعتبر هذه الكلمة « آمرة تفتقر إلى الإقناعيّة الدّاخليّة وترفض التّجديد والحوار المتعدّد وترتبط بالماضي العتيق، وتتفرع إلى: الكلمة الدّينيّة ( الكلمة الأسطوريّة- الكلمة الصّوفيّة – الكلمة السّحريّة – الكلمة الغيبيّة ) وناطقها هو كائن إلهي أو جنّي أو كاهن أو نبيّ، والكلمة السّياسيّة والكلمة الأخلاقيّة وكلمة الأكبر سنّا وكلمة المعلمين » ([14])، وغالبا ما تكون هذه الكلمة – عندما تصدر عن صاحبها – محل تنفيذ دون نقاش أو رفض، حيث تكتسب سلطتها من قوّة نفوذها، فمنذ أن أوغل إله الزمن في سناه، أُقفلت أبواب السّماء رزقها على الشّاعرة، لتغدو أبواب السّماء أبواب رزق وليست أبواباً حقيقيّة ( من خشب أو من حديد )، أي أنّ بمقابل الباب الحقيقي الواقعي الملموس نجد بابا آخر – حسب حسناء بروش – وهو الباب السّماوي، الذّي يحيل إلى منافذ للرّبح وولوج الخير إلى حياتها، وكأنّ حسناء تقول:

الإلـهُ الذّي يعتلي الوقتَ/ مُذْ رَغْبَة مُوغلهْ ( في التّغيير )/ مُنْذُهْ..( أنْ اعتلى إله الزّمن عرش الوقت )والسّماوات عن كُلَّتي/ مُقْفَلهْ..( كلّ الأبواب )/ مُنْذُه ( أنْ اعتلى إله الزّمن عرش الوقت)…وأناهَا هُنَا…  ( أنتظرْ ولمْ يتغيرْ فيّ شيء) ([15]).

نعلم أنّ التّغيير والتّطوّر الحاصل في الحياة لا يتأتى إلاّ عبر الزّمن، فالشّخص في الماضي غيره في الحاضر والمستقبل، لأنّ للزّمن دوراً في تغيير الأشخاص والحفاظ على ما حقّقوه في مراحل حياتهم، ولم تستطعْ حسناء بروش التّغيير والتّطوّر لأنّها في مسابقة مع إلـه الزّمن الذّي قبَعَ وراء تحقيق انتصاراتها وظلّ يطاردها، فتشظت أناها بين أنا راغبة وآخر عارض.

إلاّ أنّه رغم هذا الاختراق اللامحدود للأجناس الأدبيّة لكن هناك من حذّر من طمس معالم الأجناس المختلفة على حدّ ما قاله ” محمّد بنيس “: « فالتّداخل النّصي لا يتيح إمكانا إنتاجيّا في ضبط العلاقات النّصيّة وحسب، وإنّما في الوعي بالفروق بين الأجناس، هكذا يمكن للتّنظير الأجناسي أن يعتمد التّداخل النّصي أداة للتّمييز بين الخطابات لا وسيلة للتّوحيد بينهما»([16])، فأصبحت مسألة تداخل الأجناس ظاهرة في العمل الأدبي ما بعد الحداثي عكس ما كان رائجا في النّقد القديم من صفاء ونقاء الأجناس.

 

 



[1]  هاني أبو الحسن سلام، الكتابة المسرحيّة المعاصرة، مسرح ما بعد الحداثة، تاريخ نشر المقال: 16/ 08/ 2015، الرّابط: http://m.ahewar.org.

[2]  وفاء العمراني: ولدت في 15 أبريل 1960 بالقصر الكبير، تابعت دراستها العليا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، تحصلت على الإجازة في الأدب العربي سنة 1982، ثمّ على شهادة استكمال الدروس في الآداب الحديث عام 1984، اشتغلت أستاذة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، وهي تشتغل حاليا ملحقة ثقافية بسفارة المغرب في سوريا، وبدأت النّشر سنة 1980 بظهور نصها الشعري “موج التناقض العذب” بمجلة “مواقف”، وقد انضمت إلى اتحاد كتاب المغرب سنة 1984، صدرت لها الدّواوين الشّعرية التالية:

 الأنخاب: شعر، اتحاد كتاب المغرب، الرباط، 1991.

 أنين الأعالي: نصوص, دار الآداب، بيـروت، 1992.

 فتنة الأقاصي، منشورات الرابطة، الدار البيضاء، 1996.

 هيأت لك، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2002.

[3]  وفاء العمراني، ديوان ” حين لا بيت “، دون دار النّشر، د ط، د ب، د ت، ص 89، 90.

14  سيزيف أو سيسيفوس: كان أحد أكثر الشّخصيات مكراً بحسب الميثولوجيا الإغريقية، حيث استطاع أن يخدع إله الموت ثاناتوس مما أغضب كبير الآلهة زيوس، فعاقبه بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل إلى  القمّة تدحرجت إلى الوادي، فيعود إلى رفعها إلى القمة، ويظل هكذا حتى الأبد، فأصبح رمز العذاب الأبدي.

 

[5]  ينظر: جمال بوطيب، السردي والشّعري ( مساءلات نصيّة )، منشورات مقاربات، ط2، دون مكان النّشر، د ت، ص 32.

[6]  وفاء العمراني، ديوان ” حين لا بيت “، ص 89، 90.

[7]  المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[8]  المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[9]  أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، تح: غريد الشيخ محمد، إميان الشيخ محمد، دار الكتاب العربي، ط1، بيروت – لبنان، 2004، ص 221.

[10]  سليمان الديراني، ما بعد الحداثة، مجتمع جديد أم خطاب مستجد، رابط المقال: http://shurouk.orgK

[11]  حسناء بروش، للجحيم إله آخر، دار التنوير، ط 1، الجزائر، 2014، ص 21، 22.

[12]  المصدر نفسه، ص 22.

[13]  يمنى العيد، في القول الشّعري، الشّعريّة والمرجعيّة الحداثة والقناع، دار الفارابي، ط 1، بيروت – لبنان، 2008، ص 37.

[14]  ينظر: ميخائيل باختين، الكلمة في الرّواية، تر: يوسف حلاق، منشورات وزارة الثّقافة، د ط، دمشق، 1988، ص 118.

[15]  التّراكيب المكتوبة بخط غامق هي إضافة من صاحبة المداخلة للتّوضيح.

[16]  خالد بلقاسم، أدونيس والخطاب الصّوفي، دار توبقال للنشر، ط 1، المغرب، 2000، ص 43.

 

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com