لا أدري
محمد الشايب
———–
قاص من المغرب
فجأة، لبست الرياح ثوب الغضب، وزمجرت أشجار الشارع، ونادى المنادي: حي على العاصفة..! هرع الناس إلى مخابئهم. ساد الليل، اكفهر الجو، انطفأت المصابيح، أغلقت الأسواق، سيطر الذعر، وبدأت العاصفة تغزو المدينة كلها.
هرعتُ بدوري إلى بيتي، دخلتُ لاهثا، أشعلتُ الضوء، فاستقبلتني اللوحة المعلقة وسط حائط الصالون، ولجتُ تضاريسها، وتركتُ عينيَّ تتجولان في أزقتها، وتسبحان في ألوانها. رأيتُ سحبا تغني، وحقولا ترقص، وفواكه تشتعل، وامرأة تهطل غزيرة في كل الفصول. اللوحة في بيتي منذ سنوات، لكني لم أرها من قبل مثلما رأيتها ليلة ذلك السبت العاصف، بدت جذابة وموغلة في الغموض.
تعددتْ ألوانها حتى صارت بلا لون، و فاحت بشتى الروائح حتى صارت منعدمة الرائحة..، قتلت السابقين واللاحقين، وهدمت المدارس، أشعلت الماء في الحقول، وساوت بين الجبال والسهول.
ولجتُ سحرها، وضاعت مني مفاتيح الخروج، غرقتُ في تموجاتها، ولعبتْ بي أسرارها، وارتويتُ من ينابيع جنونها. ظللتُ أقلب صفحات المتعة والألم حتى خرجتْ امرأة من رحم الألوان. ضحكتْ، غنتْ، رقصتْ، شربتْ، أكلتْ، فاحتْ، أثمرتْ، جرتْ، حلقتْ، تعبتْ، استراحتْ، ثم مدتْ لي يدها، فتركنا البيت، وارتميتُ رفقتها في شوارع العاصفة. المدينة مظلمة، وفارغة، وباردة. استغربتُ، وسألت: إلى أين؟! أجابت: لا أدري..!
أشعلتْ مصباحا يدويا، كانت تخبئه في صدرها، ثم شدت على معصمي بقوة، وأخذت تطوف بي في أرجاء المدينة إلى أن أدخلتني إلى درب ضيق، وجدناه مكتظا بالمشردين. أطفال وطفلات، وشباب وكهول وعجزة يفترشون الكارطون، ولا يتغطون بشيء، يلتصقون، يرتعشون، وينظرون بأعين مذعورة، يدخنون ويشمون..، ولا ينامون..
شعرتُ بذعر شديد، واستوطنتْ جسدي برودة قاتلة، سلمتني المرأة إليهم، التصقتُ بهم، صرتُ منهم، وأخذت أفعل ما يفعلون..
نهضنا جميعا، شكلنا صفوفا منتظمة، ثم انطلقنا تتقدمنا المرأة. بدأت العاصفة تهدأ، وعادت أضواء الشوارع، خرج البعض من الليليين، ونشطت تجارتهم، يشترون كل شيء ويبيعون كل شيء. أعادت المرأة المصباح اليدوي إلى صدرها، وواصلت المسير بنا في أرجاء المدينة المختلفة، كنا نردد الأناشيد بلسان واحد، ونرقص ونغني، وكانت المدينة صامتة وحزينة.
مررنا من كل الدروب والشوارع، وشاهدنا كل الصور، وطرحنا كل المطالب، ووصلت أصواتنا إلى السكان النائمين، فاستيقظوا، وفتحوا النوافذ، وظلوا ينظرون إلينا باندهاش. واصلنا المسير، المرأة تنشد الأناشيد ونحن نرددها بكل حماس حتى بلغنا ساحة فسيحة وسط المدينة، توقفنا دون أن نتوقف عن ترديد الأناشيد، التحقتْ بنا أفواج أخرى من المشردين حلتْ من كل حدب وصوب، امتلأت الساحة عن آخرها. النهاريون ينظرون من النوافذ، وبعض الليليين يبيعون ويشترون.
كثرت الأصوات والشعارات والأناشيد، واختلطتْ ولم تعد المرأة قادرة على قيادة الوفود كلها، انسحبتْ، فانسحبتُ أنا أيضا. حضرت السلطات، تسلمت مطالب المشردين، وعدتهم بتلبيتها بعد مطلع الفجر، فهاجت الحناجر، وزغردت الألسن ابتهاجا بالنصر المبين.
عاد كل وفد إلى منطقته، أفرغت الساحة، أغلقت نوافذ النهاريين، انسحب الليليون، هدأت المدينة تماما، وغادرت السلطات.
عادت العاصفة من جديد، فانطفأت الأضواء، وأخرجت المرأة مصباحها من صدرها، وواصلنا المسير في شوارع المدينة المظلمة والفارغة والباردة جدا. تفاقم تعبي، وارتعد جسدي، فنظرتُ إليها، وسألتُ: إلى أين..؟! أجابت: لا أدري..!
اشتدت العاصفة أكثر، زلزلت المدينة، تساقطت العمارات، وهدمت الأسوار، واختفت الساحات والنافورات، والحدائق. صعدت أشجار عالية، تحولت المدينة إلى غابة ملأتها ذئاب ظلت تعوي. خيم على المرأة خوف رهيب، أخذت ترتجف، هزلتْ، ضعفتْ، ذبلتْ، زفرتْ، بكتْ، ناحتْ، هوتْ، ثم سألتني بصوت خافت: ما هذا..؟! أجبتها مذعورا: لا أدري..!
عذراً التعليقات مغلقة