أكـَاديـرُ….
والبحر يكتبُ سيرَتهُ..
محمد شاكر
شاعر من المغرب
في الطـّريقِ إلى “أكادير”…
تـَنْهبُ الحافِلة لُججَ الليل ِ الطويلْ.
يَنْكمِشُ الشِّعْرُ في الأعْماق ِ
بِكُلِّ أشْواكِ الْحنينْ..
فـَزِعًا مِن مَجاهِل الأمَام السَّحيقْ.
آت ٍ، مِن جَنوبِ الـرَّمْل والنَّخْلات ِ
إلى جُنوبِ البَحْر والأرُومَة
والقلبُ دَلـيـلْ ،
أهْبط سُلـَّم التاريخ..
لِبدْء السُّلالة في يوْم جـلـيـلْ .
كُلٌّ يَجْري إلى وَراء المَحْو ..ِ
والحافِلة تَجْري لِأمام ٍ..
يُمْعنُ في التَّخَـفي..
وأنا أضْبطُ إيقاعَ أحْلام ٍ
لم تألفْ تـَشرْذماً في لـُجِّ العَتـَماتْ.
أكـِرُّ مِراراً .. إلى مُنْعَرجاتٍ في الرُّوحِ
تـُعيدني لِثبات ِ المحطاتْ.
لا ألـْحقُ بالطـَّريق وإن ِ امْتطيتُ أحْلامي
كأنَّ الطريق َ مَحْضُ سَراب ٍ
يَفلتُ مِن شهوة ِ العـَيْن.. يوغلُ في الغـِواياتْ.
سَريعا يأتيني الأمامُ ،
مِن زُجاج ٍ غائِمِ اللوحات؛
يَتوارَى خَلفي..
ويَعـْقـُبه أمامٌ سَريع التلاشي في الغـَياباتْ.
أكاديرُ، صاحَ بي صاحبي ،
أنْتَ في خِدْر السُّلالة ِ؛
الأجدادُ يَرفَـَعون الْعَقيرة “بأحْواشِ سوسَ”
والحَسْنَواتُ ، عَلى رؤوسِهنَّ أكاليلُ “الغنبازِ، والحَبَق ِ ..
يَنتَظمونَ في صَفٍّ أبيضٍ ،
كأنهُن في الرَّقص، جَناحُ طائرٍ ..
يُراوِحُ بين الهُبوطِ، والإقـْلاع ِ
من عُلو ٍ شاهِقِ السَّبحات.
أكاديرُ.. صَباحًا، تفتح مَناَمتها التي مِنْ ضَباب ٍ
تَسْتـَلقي بـِكامِل عُرْيـِها قـَريبا..
مِن شَهْوةِ بَحْر ٍ، يُرْغي بالزَّبدْ.
أكاديرُ صَباحًا
تنـْفضُ غـَبـَشَ الحُلم ،
تـَمْضي بـِصحْوها
إلى بَحْر ساج ٍ موجُه، يَنـْداحُ رُخاءً
على رمْل ٍ ظامِئِ الأشْواقِ.
يَصَخََبُ مَـوجٌ، يَرْتخي عَلى مَرْمى قَدَمي
كأنَّه يُبايِعُ أوْبَة الطِّفْل
مِنْ جَفافـِهِ الطَويـل،
مُحمَّلا بأطاييب ِالصَّحْراءِ..
صَحْراءُ..
ويَعْبرُني حَفيفُ ريح ٍ
وارْتِعاشُ السَّعفاتِ عَلى الكثبانِ؛
حتى لكأنَّ البحْر والصَّحْراءَ ينْصَهران ِ..
قبْل جُرحِ الأرْضِ..
خِلسَة ً.. في سَديم ِ الخَلْق ِ، والأهْواءْ.
رأيْتَ كلَّ هَذا ، قابَ مَوْجَة أو أدْنى مِن صَحْوة ِ الرُّوح ِ؛
وتـَكتـَّمْتَ عَلى سِرِّ الـْبَهاءْ.
أنتَ بَعْضٌ مِن هـُنا.. ومِنْ هُناكَ
ضَممْتَ الكـَيْنونَة مِنْ غـَرْب ٍ وجَنوب ٍ
وكنتَ.. المُغيَّبَ في سِفْر ِ التَّكوين ِ.
تتلو ، وتـَنـْسى’.. وصايا الماء ِالأخْرى
يُمْليها هَذا الصَّباحُ في حَضْرة ِ الحَنين
ومَوْج مُراهِق عَلى الضِّفافِ الفيْحاءْ..
يَحْسَبُ أنَّكَ ما زلتَ تَعْلو على أثباجَِ البَحر ِ
بعُنفوانِ الرَّفيق ِ.
كأنَّ البَحْر يَعْرفـُني مِن أزَل ٍ
يُؤرْجُحني ذاتَ المَوْج ، وذاتَ الأنينِْ
لعَليِّ أسْتكينُ إلى قـَرابتي الأولى’..
وألثَغُ باسْمي أبي..الذي هَجَّرتـُهُ المَواقيتُ ، يافعاً ،
وما أوْرثني أسْرارَ اللسان ِ.
كيْ أحفظَ كـنـزَ العلاقات ، إلى مُقـْبل ِ الصِّلاتْ.
في أكادير.. يُدفئ النَّهارُ قـَشْعريرة البَحْر
فتنتعِشُ الأمْواهُ..
ولا أحَدٌ يَدْري بِما دارَ بيْني والبَحْر
مِنْ بَوْح مائِيّ ، مُشْتعِل الأمْواج
أطْفأ غـُلـَّةَ الرُّوح بـِشوْقِه الثـَّجاجْ.
لا أحدُ ، قاطَعُني مُسْتـَغـْرقـًا
في طيْش الأمْواج، والتـَّيارات ِ.
ِلا أحدٌ ، سِوايَ..
رأى حورياتٍ تـٌغنـِّي في بَحْريَ الأ ُجاجِ
وعوليسَ يُبْحِر في قاربِـه ِ..
إلى إيتاكا الأحْباب ِ.
هكذا، تأخذني، أكاديرُ، لِروائِح الأسْلاف ِ
تـَحُط ُّ بي قريبا مِنْ مَباهِج ‘الـْمَدْشَر’ والأتـْراب.
تـَفتحُ لي شَهية الذكـْرى
عَلى رَقصاتِ ‘أحْواش’
وإكليل غـُنباز وحَبق ِ..
ظلَّ طـَريَّ الزَّهـر، والعبق ِ ،
على رأس حَسناءَ سوسيَّة..
يُراوحُ الصَّدى مِنه ُ.. بيْن أعالي الجـِبال ِ
وأغْوار طِفـْل ، تعشَّـقَ الشعر ، والأزجالَ ..
تباريحُ صوت ٍِ غيـَّبتـْه الطلولُ
يُعيدُني عَلى جَناح لـَثـْغة أمازيغية
إلى حيثُ بَدْئي ، وانْعطافِ الهُويَّة..
دَليلي إليَّ.. مِنْ زَمَن ولـَّى ،
وحديثُ النِّسوة ِ في المَعابر المَسقوفة ِ
موسيقى وشروق.
تـَتـَّسِعُ الرُّؤيا ، ولا يَضيقُ البَحـرُ
يَصْخـَبُ الموْج ، تزعقُ النـَّوارسُ..
في أورْكيسترا المَساءْ
وثمَّة ، دائِما هَدير.. يبوحُ بأوْجاع المُحيط ِ..
يخْلطُ الخـُرافة َ بـِصحْو الصَّباح
يُبدِّل أحْوالَ الميناءْ..
إذ يُرْسي سفناً أخرى ، بأْلوية ٍ سَوداءْ
وذبيب ِ الخطى ، لِقراصنة ٍ
عَبروا خاطِر المَساءْ.
أضبطهمْ وحْدي ، قـَبل التَّواري
وراءَ الشَّفق ِ المُخَضَّبِ بالدِّماءْ.
ما زلتُ أسْتحلِفُ العَناصِرَ الأخْرى ..
تـُرمِّمَ شرْخَ اليَقين ِ.
أسْتحلِفُ الموسيقى ، رَغـْم الْهـَدير،
في رَدَهات ِ الوقـْت ِ، تـُحَرِّك أجْنِحة الرُّوح ِ
تـُؤثـِّثُ لي سَماءَ الصَّمْت العالي
بكلِّ اشْتِهاءاتِ المَصيرْ .
أستَحلفُ الإشاراتِ في انـْبـِلاجـِها
عـِنْد كلِّ خَطْو ٍ لا دَليلَ له ُ..
يَخـْبـِطُ في التيه ِ، والإيهام.
إذ ْ تـُعْوزُني أبْجدِيات ٌ أخـْرى
كيْ أتهَجَّى مَرْسومَ الوَطن الْجَليل..
مَحْفورًا على قـِمَّة ِ الجَبل ِ الأثير
يُضيءُ ليلاً.. كأنْ لا سُمُوَّ إلّاهُ ..
ويَنْطفي في نـَهار ٍ ،
تأخُذهُ دَوّامةُ السَّعي ِ الغـَفـيـر ِ.
ولا يَنـْسى ذاكِرة الزِّلـْزال ِ
في يوم ٍ ألقَت ِ الأرضُ ما عَليْها، وتَخلَّـتْ
بَلعَتْ بَنيـها ، واسْتـَوتْ ، كأنَّ شيئاً، لا يَعْنيها..
الآنَ ..
يُعْوزُني لِسانُ جَدِّي الموؤود فِيَّ.. كيْ أكلِّمَ الآصِرة
عَن وَحْشَة ِ طيني
وغـُربة ِ العَناوينِ
تـَسْلبُ مِنّي كلَّ حين ِ، مَعالِمَ الهُويَّةْ.
في أكادير..
لمَّا انـْقـَشعتْ غِشاوة ُ الْحَنين ِ
رَأيْتُ نـُدوبَ الـْبَحْر ِ.. تـَنـْداحُ
عَلى شَط ٍّ مُسْتاءْ.
كمْ وجْهاً أضاءَهُ خيالي..
في القـُرب ِ.. ألـفيه ِ رَمادًا
كلما تـَناءَى طـَريقٌُ.. أعْبُره ، آخـَر النَّهار..
أنا “السُّوسِي” الأخيرْ؛ تـَدْلقـُه أبـْوابُ الهُويّة.
تـَعـْبُرهُ الجـِهاتُ ، ولا يَـقـْتـفي أثـَرَ الـدَّليلْ.
أسْمعُ ” للغـربِ” نِداءً ، يَعْبُرني
يَغربُ في البحرِ المُقيمِ
أسْمعُ لِلجَنوب نِداءً
يُشْعلُ خُضرةَ السَّعفاتِ ، في صَحارى نِسْياني
أمْتـَطي نـَبْضَ قلبي، ولا أغادِرُني ؛
أرْغـَبُ في خِفـَّة الرُّوح، فـَتـُقـْعِدُني..
زحام ِالمَكانْ.
=================
خاص بصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة