حلـم أزرق ..قصة قصيرة للكاتب المغربي محمد الشايب

23 سبتمبر 2018
حلـم أزرق ..قصة قصيرة للكاتب المغربي محمد الشايب

 

حلـمٌ أزرق

 

محمد الشايب

______________

قاص من المغرب

 

ولجتُ ليلا شديد الظلمة، وسرتُ في دروبه. الصدر مفتوح في وجه كل الرياح، والبال سرب يحلق في سماوات التيه، والأغاني غزيرةً تهطل، والأيادي البعيدة، من قلب المنافي، تلوح . تمدد المسير، ورقصت الأغصان، وفاحت روائحُ المطر. تعددت صفحات الليل، واختلفت ألوانه، طويتُ السهل، وتسلقتُ التل والهضبة، وسبحتْ عيناي في الأسود، وتغنتْ بالأخضر والأحمر، واستظلتْ بفيء الأزرق. صعدتُ جبل الليل العالي، وقابلتني نافذة، فتحتُها، فتراءت لي أمواج من النساء، غنى البحر، ورقصتْ مياهه، وتهتُ في السحر المتلاطمة أمواجه، ثم قفزتُ من النافذة، ووجدتُني أمام عيون تتدفق ماءً عذباً، لا تزيد الشارب إلا عطشا، اقتنيتُ تذاكر الأسفار البعيدة، وطرقتُ باب جدتي، وجدتها نائمة، فجلستُ قبالتها، أسبح في الشيب، وأتجول في التجاعيد، وأقرأ حروف الزين، أيقظتُها، فنظرتْ إليّ، ثم توجستْ مني خيفةً،

قلت: أنا منصور.

قالت: منصور مات..!

قلت: بل مازال حيا يسعى..

قالت: غرق في النهر ذات عشق بعيد.

قلت: لم يغرق، ولكنه عبر إلى الضفة الأخرى..!

قالت: طفتْ جثته ذات صباح ماطر، ودفناه زوال يوم صاهد.

قلت: بل خُيل لكم..

قالت: بكينا بكاء شديدا، وخاصمْنا النهرَ.

قلت: كنت في الضفة الأخرى، أراقب كل شيء.

قالت: وغرقنا في فصل الحداد..

قلت: حاولتُ العودة، لكني لم أستطع..

قالت: كلما فُتح الكتابُ، بكينا..

قلت: أرسلتُ إليكم رسائل كثيرة.

قالت: في تلك السنة غاب المطر، وتعرت الأرض، وأخلفت اللقالق مواعيدها..

قلت: هذي صفحاتي اقرئيها..

قالت: كان منصور مائي وهوائي..

قلت: هذي أبوابي افتحيها..

قالت: بعد صمت طويل فارقتُ الحياة..

قلت: أنا من سقى البستانَ بعدكِ..

قالت: تركتُ شجرة التين وحيدةً.

قلت: أنا من حميتُ أغصانها، وقطفتُ تينها..

قالت: قبري وحيد..!

قلت: بل تحيط به قبور الأحبة..

لم تقتنع أني منصور، لكن خوفها مني أخذ يتبدد. جدتي ماتت منذ طفولتي الأولى، رحلتْ بعد رحيل جدي بعام. قبراهما الآن متجاوران، ويتوسطان قبور الأخوال والأعمام والعمات والخالات والأبناء والبنات.

رحلت كما رحلوا، ولم أتوقع أبدا لقاءها، كنت حفيدها الأعز، وهاهي لا تتعرف عليّ الآن، وتقول إني مت قبلها..! مشيتُ قليلا بالقرب منها، تلاعبتْ بي زفرات، وطارت بي هلوسات، فتحتُ كتابا قديما، وتهت في فصول السطور، قرأتُ كيف كانت جدتي تصول، وتجول بين الحقول، وتفرح لقدوم المطر، كيف كانت تصعد شجرة التين، وتحادث النهر والسماء، وكيف كانت تغني للقالق العائدة، وتسألها عن الراحلين، كيف كانت تستقبل الليل، كيف كانت تبحر بي، على متن سفينة الحكاية، في بحور الغرابة والبطولة والعشق..، ظللت سجين حروف الكتاب القديم إلى أن هَبَّ صوت جدتي وهي تردد:

رُدْ بالك يـا  منصـور    *     دِيكْ سحــابـة كَــدُّورْ

ف بلادي وديانْ وبحورْ    *     صحاري وسهول وصخورْ

خيـرْ وحيـاة وقبـور    *     رُدْ بــالك يـا منصـور

دِيـكْ سحابـة كَـدُّورْ  

عدت إلى الاقتراب منها، فسلمتني آنية من طين، وطلبتْ مني أن أملأها ماءً، فهمت أنها تعاني عطشا شديدا، فجريت حاملا الآنية. سرت يمينا وشمالا، صعدت وهبطت، صرخت وهدأت، بكيت وضحكت، نمت واستفقت، حزنت وفرحت، ثم عثرت على عين جارية، فملأتُ الآنية، وعدت جاريا، وحين وصلت، وجدت جدتي قد تحولت إلى حمامة، تحلق جذلانةً في السماء العالية.

 

______________________

قصة قصيرة خاصة لصحيفة قريش/ ملحق ثقافات وآداب  لندن

 

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com