خصلة شَعر.. وشهقة الموت السريريّ.. قصتان للكاتبة الفلسطينية عايدة نصرالله

14 سبتمبر 2018
خصلة شَعر.. وشهقة الموت السريريّ.. قصتان للكاتبة الفلسطينية عايدة نصرالله

  

خصلة شَعر..  وشهقة الموت السريريّ

 

 

عايدة نصرالله

_________________

قاصة من فلسطين- أم الفحم

 

 

خصلة شَعر

كنت قد علوت بجناحي حتّى ثقب السماء، وكان جلدي قد أوشك على الإمطار عندما قال لي:

–       هي قادمة.

لم أقل شيئًا.

سقطت من السماء، وجناحيْ استحالا فجأة عكّازين اتّكأت عليهما.

كان قلبي قد سافر هناك… للرمال… للشَعر الغجريّ… لجلده البرونزيّ ولأقدام دقّت الأرض في رقصة خيول جامحة.

الطبول البربريّة قد رنّت في المخيّلة حتّى كادت أن تأكل إبهامي من شدّة الولع.

–       هي قادمة.

كومة شوك أحسستها فجأة في حلقي، طعم علقم نفث دخانه في الغرفة. وجنتاي اللتان تورّدتا عادتا إلى طقس الشحوب من جديد.

هناك… سكن رجل ووعد. ولأنّي أؤمن أنّي أشدّ اللهفات من عنقها، وأسحب الشطآن من زنّار الماء إلى حضني، آمنت أنّي سأقبع في حضنه ما تبقّى من العمر.

–       مجنونتي! طفلتي!

لمَ تغتالين وحدتي وتأتينني آخر الليل؟

كانت تلك أوّل نفحاته التي ملأت مخيّلتي.

 –كيف آتيكِ؟

ليلة أمس، ظهرتِ لي بشعر طويل. مسّدت على شعرك، انتعفنا في ماء الشاطئ، لثمنا ملوحة البحر، مثيرة تلك الملوحة، تستفزّ الشفاه أن تلعق بعضها.

 هل تعدينني بامتصاص الملوحة عندما تأتين؟

ضحكتُ.

–       المهمّ أن آتي إليك.

من أوّل الخيط الذي امتدّ شطآنًا وبحارًا،

 ولأوّل الريح التي رفعتني تحت المجرّات،

نسجنا ببطء حلمنا الذي بدأ مع أوّل نسيج لقصيدة، حتّى أصبح يخترق نسيج الأوردة.

–       عندما تأتين أحضري خصلة من شعرك.

ارتجفت منفضتي وعاد رماد السجائر لاشتعاله، وشعرت الصحراء تُنمِّل تحت قدمي، تلسعني، تغسل بياضي وتشفي ندبي، وترسم هدبي من جديد.

–       خصلة شعر؟

و…

يأتي ذلك الغجريّ ذو الشعر الملتفّ خواتم على جبينه ليقول:

–       أريد خصلة من شعرك.

–       خصلة شعر؟!

خصلة الشعر لا تختلف عن نسيج الكلمات، نسيج الجسد، نسيج الحلم، نسيج الرواية التي نكتبها معًا.

–       هل كانت لك ضفيرة حبيبتي؟

–       نعم، كانت لي عندما كنت صغيرة. لماذا؟

–       أحسّ أنّك ستعيدين لي ضفائر أمّي،

 وعلى ركبتيك سأنام.

أنت ستنام على ركبتي،

 وهناك من نفث فحيح قصائده على ركبتي.

–       ما هذا الأمر والرُكب؟

سؤال سخيف هاجمني.

بعد أن أعددنا أدوات النسيج، الخيوط والإبر لنبدأ غزل حكايتنا، وكان الماء قد أوسعنا غسولا، وكنّا قد التحفنا البحر والرمل والغابة. قال:

 سأبني لك مهدًا من ورق الشجر، وأطعمك كالطير.

شعرتُ بذلك الوهج الذي يسقف ظهر السماء،

 ويطيح بجيوش المتخيّلات لتسكن حضني،

 يسافر بي إلى مهد ينتظرني هناك في بلاد بعيدة، 

هناك… مهد معلّق على شجرة،

حيث جديلة الماء تنتظرني بزبد البحر الكامن في ضوء عينيه.

–       سأبني لك مهدًا من ورق الشجر وأطعمك كالطير.

ضحكتُ لعظم الكذبة،

مع ذلك أغمضت عينيّ واحتضنت الكذبة،

 أردت تصديقها،

 احتجت فعلًا أن أراني محلّقة بين السماء والأرض،

 لأتضمّخ بنزق الغابة وعبثيّتها.

نسيت أن أسأله عن اسم أطول شجرة هناك.

خسارة، سأفترض أنّها شجرة جوز أو سنديانة كبيرة، وسأتخيّل المهد مصنوعًا من أوراق الشجر وأنا أتأرجح فيه حتّى أغفو، وجلده البرونزيّ يسقف أهدابي.

–       أخاف أن تفترسنا الحيوانات!

ضحكنا.

لن تصلنا الحيوانات.

لكنّي أخاف الأفاعي،

هي وحدها القادرة على الوصول إليّ،

وكم من كوابيس مليئة بالأفاعي طاردتني في صغري!

أحد الكوابيس الذي أرّقني وما زلت أذكره،

رأيت نفسي فيه واقفة على صخرة عالية،

فجأة نظرت حولي وقد امتلأت جوانب الصخرة بالثقوب،

من كلّ ثقب أطلّ رأس أفعى مع عيون تحملق بي.

نظرت للأسفل،

لم يكن لي مخرج،

 فأنا على قمّة الصخرة،

ولو لسعتني واحدة ستكون الأخريات متربّصات بي،

 ليأكلن لحمي ميْتًا،

تذكّرت وأنا أسكن الكابوس أنّ الأفاعي لا تحبّ الميّتين، تحبّ اليقظين دومًا.

وبعد جفاف الريق

رأيت يدًا تحملني من  شَعري  وترفعني إلى أعلى، فصحوت، ولم أدرك لمن كانت تلك اليد التي أنقذتني،

إلاَّ أنّها لم تنزع  خوفي من الأفاعي.

ولماذا أفكّر بالأفاعي؟

 لماذا لا أفكّر بابتسامته فوقي؟

تلك التي تنزع الظلمة من جوف الليل

وتشعل الثلج حتّى يستحيل لهيبًا؟

قال لي: “ارحمي دموعي!”

لم أر الدموع،

لكنّي رأيت عينين امتزج بهما العشب،

النحاس والزيت المعتّق،

ولولا ذلك الحاجز الزجاجيّ لمسكتهما بيدي، وشربتهما بروحي.

بدا شَعره من وراء الزجاج غزيرًا طويلًا

مبعثرًا على جبينه النحاسيّ،

 وأمّا لحيته فأغرتني للغرق.

–       حبيبتي!

أنت لن ترتاحي إلّا في حضن أسدك.

–       أسدك؟

–       نعم،

 قالها بعد أن تخيّلتُ شفتيه المكتنزتين شفتيْ أسد.

–       شفاهك ضخمة،

سأكون فريسة سهلة بين فكّيك، باستطاعتك أن تبتلعني كأسد.

كدت أضحك حين تداعت إلى ذاكرتي كلمات عادل إمام وهو يقول:

 “ده أنا بخاف من أرنب، يطلع لي أسد”؟!

ضحكت في سرّي.

مع ذلك أحببت تعبير “أسدك”، أو “ذيلك”.

ويقصد “ذيله”،

ينسب أشياءه لي،

إنّه لَشيء مغرٍ للمرأة عندما يخاطبها الرجل

 وينسب أشياءه إليها.

 وفجأة، تستبدّ بي الأفكار المتخيّلة المجنونة، وأتخيّل ذيله بين يديْ كالدمية،

وأحيانا أغرق في السباحة على مسرح غروتسكي جنوني، فأتعامل مع “ذيله” كشخص مستقلّ عنه.

ألم يقل: “ذيلك”؟

وتتداخل الصور في بعضها،

 حيث أرى الذيل لوحده معي في المهد، أدلِّـلُـه، أسقيه من ريقي،

أمسح على ثمرته بزيتي حتّى يلمع كالبرْق،

ويشتدّ أزره كفلّاحة في حقل تزرع وتنكش ولا تملّ، ويصير له فم وعينان،

 ثمّ سرعان ما أراه أفعى تفتح فاهًا

 تحدّق بي لتبتلعني.

أصيح في هوسي وهذياني:

–       لا، أرجوك لا تصنع لي مهدًا، سأكتفي بعينيك.

غبت في عينيه،

ذبت في رغوة البحر،

هناك على شاطئ بعيد،

حيث المهد معلّق على الشجرة منتظرًا.

–       هي قادمة.

انتفضتُ من سهوي واجترحتِ الكلمات حلقي،

 ثم قلبي.

قلت له:

عمت مساءً.

نفيتُ الأحلام من ذاكرتي،

وبقي هو ذو الشعر الغجريّ ومساحاته البرونزيّة، وعيناه الصقريّتين تنظران إليّ من بعيد

لأترقّب انقضاضه عليّ،

 بل أتمنّى ذلك الانقضاض ولو رغمًا عن أنفي.

 

_______________________________________________________________________

 

 

شهقة الموت السريريّ

داخل الكأس، سكنت عيون كبيرة، صغيرة، لحميّة، زرقاء، خضراء، عقيد وعميد، شاعر وزنديق، اختلطت الصور في مخيّلتي. ولم أكن أرى سواه، ذلك الرجل الذي حمل على رأسه غابة، وعلى جسده امتدّ بحر المدينة العتيقة، وفي عينيه سكن صقر. رجل وفّرته في زوادّة أحلامي، انتظرته قبل ولادتي.

كأس ثمّ كأس أخرى.

تلاحقت الكؤوس.

شيء ما تشوّش في ذلك المكان. ذلك المكان. الضاجّ بالعيون، الشاجي بموسيقى فقدت هويّتها وبالرقص الهمجيّ الذي طغى عليّ، دون أن أدري، تحت جنح “لحن” لم أفقهه.

 

–       أحتاج قهوة. قلت له.

نزلنا الدرج.

هناك، رأيت امرأة ممدّدة على رخام مطبخ غريب. عرفتها.

 فستاني كان يشبه فستانها،

 نزيفها، لهاثها، كلّ شيء فيها كان يشبهني.

 لكنّها لم تكن أنا.

امرأة أخرى تدلّى فوقها فم مفتوح.

الفم المفتوح، كان كبيرا جدًّا كمغارة، وبدا وكأنّه بلع الغرفة. فم فاغر…كان أشبه بفوّهة بركان يلهث زاعقًا حروفًا وكلمات متلاحقة، بعضها سمعته بوضوح وبعضها الآخر ابتلعه التيه. كلمات لم أكن قد سمعتها من قبل. ولولا تلك الكلمات لكدت أن أصدّق أنّني هي.

أحسّت المرأة أنّ جارزتها ترتفع، وبلا شعور مدّت يديها لتغطّي عرْيها، عندما سمعت خطوات عابرة تمرّ من أمامها.

بعد ذلك، مشت تلك المرأة مع الفم الفاغر إلى غرفة أخرى.

المرأة تحت الفم الفاغر. وهو الفم ما زال مستمرًّا في فحّ كلماته المتلاحقة كالطعنات، تنغرس في روحي.

–       عاهرة، فاجرة، خائنة.

تلك الكلمات فقط هي من كانت تلطم أذني من شدّتها. تخيّلتها صورة  سرياليّة لامرأة وفم مفتوح.

 المرأة بدت كجثّة،

جلدها يسمع،

 وعاجزة عن إتيان الأجوبة.

–       ترى بم يتّهمها؟ سألت نفسي.

–       بالكلام. جاء الصوت.

كانت كلماته تعضّني،

 وشعرت أنّ شيئًا ما قد أخذني إلى عالم من الخدر. ما الذي جرى فجأة؟

هل فقدت الإحساس بي؟

تلك المرأة الممدّدة على الرخام، كانت أشبه بحثّة هامدة معدّة للتشريح.

 وخلته يحمل سكّينًا ويقتطع شرائح لحمها.

حاولت التفوّه بكلمة، لكنّ لساني كان مشنوقًا.

–       من تلك المرأة؟

شعرت بجسدي قد سافر لعالم هيوليّ.

–       هل أخذتُ مشروبًا، أو وصفة سحريّة غريبة؟

القرط يضايقني،

 نزعته، ثمّ نزعت الجارزة، فحمّالات الصدريّة.. حتّى غادرتني روحي.

هجمت عليه دون حبّ ودون كره.

بحياديّة تامّة.

رأيت دموعه.

لم أحتمل.

–       أحبّكِ

كادت الدموع تفرّ من عينيه.

فجأة،

 انسرب داخلي شعور الأمّ التي ودّت أن تمنح طفلها التهليلة الأخيرة.

سقطت عليّ دموع ساخنة،

 واتّكأ عليّ لهاثه الموجوع.

 وغمرني حليب الأرض حتّى الغرق.

 فمي كان مذعورًا،

وثديي حائر، راقه الدخول في الموت الناعم.

 أذني المصدومة كفّت عن الخجل،

وترنّح الفراش أمامي مبلّلًا بسكّين الماء.

*******

هو ذاته الرجل ذو الفم الفاغر.

اختلطت الصورة.

بعد ذلك الطقس الغرائبيّ.

أحسست نبض قلبه يسكنني.

لا، لم أحبّه هو.

كان رجل آخر قد وجد مسربًا داخل روحي.

الرجل الذي صرخت من تحته كان مستورًا وراء شبكة العين،

 برونزيّ الجسد،

مبعثر الشعر،

صقريّ العينين.

هو من أبحث عنه كلّ وقتي وزماني،

هو من يسكن نصوصي،

هناك في صحراء بعيدة

 أو على حافّة بحر هائج،

أو على فوّهة بركان،

المهمّ، أنّ هذا الرجل الذي فحّ فوقي لم يكن رَجلي.

ولهاثي الذي امتدّ إلى السماء كنجدة غريبة لم يكن له.

–       أحبّك. قال الرجل الآخر.

وأنا أسمع صداها من بعيد.

كان حلمًا كوّنته في مخيّلتي

لا. لا. يشبه ذلك الفم الفاغر.

أغمضت عينيّ

 كي لا أتذكّر تلك المرأة المُمدّدة على الرخام،

كي أبتعد عن كلمات الفم الفاغر.

حاولت التركيز في رَجلي الذي شكّلته بريشتي،

ذلك الغجريّ الذي جسّده شاطئ رمليّ.

وهناك حلّقت…

 لم أعد أشعر بكلمات الفم الفاغر.

عمرٌ من الوهج مرّ وأنا أنادي ذلك الحلم،

 وهذا يصيح بدوره متلذّذًا بعد أن نفض لوثات عقله.

–       إذن، لماذا فعلت ذلك؟ قال قلبي:

ربّما هو تشويش.

ألِأجل ذلك التشويش استمرأت العذاب،

 أم للدفاع عن لحظة الكشف؟

ربّما بسبب وجعه.

–       أنا مسكون بالحزن. قال.

قلت: سأرتقه.

–       وهل رتقته؟ قال الصوت.

–       لا، لم أرتق حزنه، بل فتحت جرحي.

أصابني برد على فجأة ومياهي سكنت.

وهو ارتعش بعينين بلّلتهما الهزيمة.

جرحي تغمّس بالدم تمامًا.

وددت غفوة رحمة.

تلك المرأة على رخام المطبخ كانت سيّدة الظلّ، سيدة الوجع،

 مغلولة اللسان،

 ذات عيون مبلّلة.

وكنت قد بلغت مرتبة الإشراق فأمطرت،

وكانت تلك امرأة أخرى دخلتني،

أو هي أنا التي دخلتني.

حوريّة منفيَّة كنت من الجنّة،

 فدخلتها بإرادتي؛

ولكن قبل أن أشعر بالرذاذ الأخير.

 كانت تلك المرأة.

 “بيجامتها” زرقاء “كبيجامتي”.

وجعها كوجعي،

 قد استفاقت.

 فاستفقت لأراني،

 والصوت يملأ أذني.

–       زانية.

–       عاهرة.

انتهت مدّة إقامتي في ظلّها حيث رأيت في الصوت إشارة إلى ضرورة عودتي إلى موطني، فارتفعت إلى السماء وحلّقت في طريقي إلى المدى،

حيث رجل الصحراء…  البحر والغابات.

 

______________________________________

 

قصتان خاصتان بصحيفة قريش/ ملحق ثقافات وآداب – لندن

 

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com