في المجموعة القصصية” أنين الماضي” للأديب سمير ريان
الزهرة حمودان
__________________
ناقدة من المغرب
يحملنا ميسم “أنين الماضي” للكاتب سمير ريان، بمكر أدبي، إلى وجهات غير مرتقبة، حيث الأنين يوحد المواجع، بينما الماضي، يتشظى أزمنة هلامية، يصعب تحديدها.فالماضي في المجموعة لا يحيل على زمن فيزيائي بقدر ما يقودنا الى الزمن الانساني الذي يقدمه السرد[2]، ففي السرد يتلاحم الزمني بالانساني. وكلمة “الماضي”، في عتبة العنوان، لا تحمل معنىً مباشرا، وانما تدل على ان الزمن يصبح انسانيا، فقط ،عندما يتم استيعابه ضمن النمط السردي الذي لا يستطيع ان يستعيد سوى الزمن المنتهى. وهنا نقف – ضمن التقابلات التي أثث بها الكاتب نماذجه السردية- على دور الزمن المغاير في وحدتي الحلم، من خلال أقصوصتين هما ” الحلم” و ” أوراق بيضاء”؛ إذ فيما يقوم السرد على اللازمن في الأولى، والزمن الاستشرافي في الثانية.
سمير ريان
تقودنا القراءة في عتبات المجموعة القصصية ، إلى التعرف على عينة من السرد المعرفي، تعرِّف بقضايا إنسانية خاصة، وأخرى عامة..تمرر المعلومة والمقولة، والمفهوم الفلسفي، بتقنية مفاتيح الأقصوصات، وتُجرِّب من منطلقات معرفية بأبجديات تخليق العمل السردي، خلقا فنيا، مستوحى من أواليات تجارب الكتابات السردية، كألف ليلة وليلة، ودون كيشوط، و الأدب العجائبي، كما سنحاول الاستدلال على ذلك من خلال نصوص المجموعة.
وهي تنتظم في ستة عشرة أقصوصة، أغلب شخصياتها المركزية مسطحة، غير نامية ولا متطورة، يقدمها المؤلف للمتلقي، بوصف دقيق من الداخل و الخارج، أي يُشرِّح نفسيتها، و يبسط شكلها الخارجي، وكيف تتحرك في وسطها وبيئتها، مع إشارة خفية، لاتخفى على القارئ اللبيب، إلى المسافة التي تفصلها عن المجتمع، مما يعني أن شخصياته هامشية : في المتشرد و المختار، والعميان، . يرسم هذه الشخصيات في فعلها الثابت من أجل تمرير تأثير نافذ لن يفارق القارئ بسهولة. غير أنه هناك استثناء حاضر بقوة جماليته وبلاغة التفاؤل في حكايته، ودلالة شخصيته الرئيسة، التي يشخصها ” العصفور”، في أقصوصة ” داخل القفص”، الذي مسَّكه الكاتب ناصية السرد،وأنطقه بالحكمة، إذ يقول : “أستغرب كيف لا يزال معظم الناس، رغم كل هذه النعم يغرقون في تعاسة و حزن، و كأن الفراغ ينهش أعماقهم..{..}..يبدعون و يبتكرون أساليب جديدة لمقاومته و التخلص مه، لكن دون جدوى”[3] وفيها يحرر المؤلف من هو بداخل القفص، ومن بداخله، لتظل الذاكرة – في باقي وحدات المجموعة – توقد على صوت أنين الماضي، تئن به مشاهد استرجاعية،يجرب الموؤلف فيها، من خلال توظيفه لمفردة ” الذاكرة” ومشتقاتها، وفعل الكينونة المهيمن على زمنية السرد، من منطلق ان السرد لا يقوم الا استنادا على ما توفره ذاكرة الماضي، كما سنرى لاحقا.
تقدم المجموعة حكايا الهامش بتقابلاته وتقلباته..فمن كان في المركز داخل بلده سيتحول إلى الهامش في مجتمع غير مجتمعه، وبلد غير بلده ،وعدالة ناطقة باسم القاضي الفاريس حيث المتهم “..عربي مدان بارتكاب جريمة في حق زوجته الاسبانية، داخل التراب الاسباني ..”[4]و هو الحال في حكاية ناتاليا، التي تتعالق مع أقصوصة “حلم ” بِعُرىً تم توظيفها لربطهما بالأبعاد المشتركة لقضية الهجرة، وتداعياتها. يتمدد الهامش كذلك ليغطي فضاء السجن في أقصوصة “الطائر الغريب”[5]، و الغابة في أقصوصة ” المختار”[6]
وقبل أن أفتح بوابة قراءتي للعمل، التي ولجتها من مدخل” الأدب الإسنادي”، لا لهيمنته المطلقة في المجموعة، وإنما لكونه أحد أبرز تجليات الجهد التجريبي للكاتب في مجموعته، لابد من تقديم مصطلح التجريب وضرورته، وكذا شرطه الأساس، المتمثل في الوعي بمفهومه النظري، ووظيفته الاجرائية في الحقل الأدبي، وبالأخص فيما يتعلق بفعل التخييل، وشرطه الجمالي، وحدوده التجنيسية.
يسعى الأدب الى تقديم نظرات حول العالم، بقدر فهم الأدباء، وتصورهم لكينونة الإنسان فيه، وإمكاناتهم التخييلية، وقدرتهم على إعادة تشكيله، لذلك يعد الأدب حقلا خصبا للتجريب ، ففيه تتحقق المفاهيم النقدية. وفيه يبدع الأديب نموذجه الخاص شعرا كان أو سردا ، بمقوماته الفنية الخاصة وأركانها، وأسلوبه الذاتي ومضامينه الأمر الذي يؤهل الأدب للتجديد المستمر. وبما أن السرد يحمل الخطابات المتنوعة، والمتعددة، في الرؤى والتوجهات للانسان و للعالم، فإن المتلقي للمجموعة سيجد في النصوص الموازية أو ما يسمى بالعتبات- وهي كل ما يحيط بالعمل، ابتداء من واجهة غلافه، إلى ظهره- ما يقربه من رسالة المبدع الفنية و الموضوعاتية، ويولد لديه محفزات للتغلغل في العمل، والبحث عن الإشارات التي حملتها له هذه النصوص المتناثرة عبر مساحات معينة و محددة من قبل المؤلف، خصوصا النصوص/المفاتيح ، التي هي عبارة عن إشارة كتابية تسبق نص كل أقصوصة.
إذ يكتشف المتلقي في الاقتباسات التي تتضمنها هذه النصوص، معرفة تثقيفية، كما يكتشف في ثنايا النصوص السردية للمجموعة ، معرفة تتوسل بالتخييل ، لصوغ سرد تجريبي متنوع، رصدنا منه السرد الاسنادي- لأنه في أغلب أقصوصات المجموعة، هو من يمنح الشرعية السردية للحكايات المتفرعة، التي توثق لميلادها وتبرره.
يتبدى الزمن مع تقنية السرد الإسنادي، ممتطيا جملته الاستهلالية ، المحددة لهوية الراوي، الذي يبدأ الحكاية الإطار، ليسترجع من خلالها الفضاء والحدث. والحكاية الأصل (الأم) هي التي تحتفظ بصورة ما يسميه النقاد بالإسناد الخبري، حتى و إن كانت حكاياته بسيطة التركيب، ومحدودة الأشخاص، و لا تتجه الحكاية الإطار “إلى ذاتها تحديدًا وإنما تقصد إلى إيجاد صيغة تحفيزية للتأليف السردي. ومن خلال العلاقة الإسنادية بين الحكاية الأم المحمولة عبر المخطوط أو الحكاية الشعبية المكتوبة، أو التمثال الطوطم، وبين النصوص السردية في المجموعة، يفسح المؤلف لنفسه مساحة للتجريب، بإدخاله سمات جديدة على المسند إليه{ حامل الحكاية الأم} موظفا لذلك راو يتولى مهمة السرد بصوته، أو بصوت بطل آخر، حسب ما تقتضيه وظيفة العلاقة السردية /الاسنادية التي يقوم بها .
يعد المحكي ظاهرة أصيلة في الوجود الانساني، لأنه يمثل الشكل المعرفي الأول، الذي استعان به الانسان، من أجل تفسير الظواهر الطبيعية[7]، لهذا كانت البدايات المعرفية موجودة في الحكايات – على حد قول الناقد المغربي د.سعيد بنكراد؛ إذ الحكايات التي هي مستودع القيم الانسانية. ومن زاده المعرفي،و رؤيته، و ينحت الكاتب نصوصه الحكائية.
تتولد المجموعة المجموعة من رحم مسند إليه يمتح من تاريخ الأدب الاسنادي، لكنه ينجدل مع فعل تجريبي للكاتب في تخليق مسانده الخاصة، نتعرف عليها من خلال التخريجات التالية:
1 – الحكاية الشعبية:
ونرصدها في الأقصوصاتالوحدات السردية التالية :
– أقصوصة ” المؤامرة ” ، حكاية شعبية مكتوبة، لا تحمل اسم مؤلفها ، مما سمح لنا بتصنيفها حكاية شعبية، لما صرح لنا الكاتب كقراء، من خلال راوٍ يخبر أن أقصوصته عثر عليها في كتاب مستعمل قديم، و أنه سيعيد صياغتها، قائلا :”… عندها ألهمت بفكرة جيدة وهي إعادة كتابة نفس القصة بأسلوب جديد و إحداث تغييرات جذرية عليها و بما أنني اريد ان يطلع القارئ على محتواها باختصار ودون عناء كبير قررت تلخيصه في هذه الأسطر”[8]. وهذه الحرية التي تطلق يد الرواة في التغيير و الزيادة و النقصان في الحكاية الاصل، لا توجد إلا في الحكاية الشعبية الشفوية، غير أن المؤلف هنا قام بتجريب تخليق حكاية شعبية مكتوبة.
– أقصوصة ” قارئة البخت”، وفيها تجد الراوي الذي يحكي بضمير الغائب، والمضمون الذي يمثل ظاهرة اجتماعية قديمة. عرفتها الشعوب القديمة، و ذكرتها في أساطيرها باسم ” العرافة “، عاملان منحا الحكاية ذلك البعد الشعبي، رغم ما أضفاه المؤلف عليها من رتوش عصرية، وإسناد أوروبي لشخصيتها الرئيسة. وعلاقة الإسناد في توليد نص الأقصوصة هنا ليست علاقة الحكاية الأم السردية ، و إنما تؤطرها أغنية “قارئة الفنجان”، وهي في الأصل قصيدة للشاعر الراحل نزار قباني، تنطق بلسان حاملة اسم العنوان التي تعني أيضا قارئة البخت. وهي أيضا تحمل جينات التجريب في الجنس الأدبي للحكاية الأم .يقول الراوي:” كان قد نسي تنبؤات صديقته “كارمن”. لكن بعد مرور سنين استرجع تلك الذكريات، من ضمنها الحوار الذي جرى بينه وبين “كارمن”؛ قارئة البخت حول السفر إلى بلد اوروبي وكيف تحققت تنبؤاتها”[9]، ويبدو أن التجريب هنا مضعف، إذ يستلهم الكاتب إحدى عناصر الثقافة الشعبية وهي ” العرافة”، كمسند إليه لأقصوصته، يأتي به من الشعر المغنى، .
2 – المخطوط :
– أقصوصة ” عناء طويل”، تحملها العلاقة الاسنادية الكلاسيكية بكل تفاصيلها، مع إضافة لمسة المؤلف التي تجسدها الصورة المضافة للمخطوط، و التي تحمل وظيفة التوثيق لعلاقة صاحبتها بأبطال الاقصوصة طي المخطوط. يقول الراوي الملتبس بشخصية المؤلف – وهو يتلاعب بالأزمنة، بوضع المتلقي في زمن غير زمن حكاية المخطوط- يومئ إليه بالقضايا الاجتماعية لعصره، وهمومه.. ينتقل به من مدينة إلى أخرى، بحجة سفر الحفيد الأثير لدى جدته المتوفاة حديثا، من أجل فك خط مخطوط تركته له :”رفع الحاج عينيه و اخبره بان الوثيقة ليست عقد ملكية ولا وصية، بل هي قصة حدثت في إحدى قبائل الشمال في عشرينيات القرن الماضي”.[10]
3 – الطوطم
– أقصوصة ” الطوطم “، يمكن أن نقرأها في سياق ” الأدب الاسنادي”، على أنها مسند إليه تجريبي، ابتدعه المؤلف لرغبته في استعادة جزئية زمنية تستعصي على الفهم، لكنها تقدم تجربة أنطروبولوجية لغوية،ضمن سياق يحكمه وجود طوطم. يقول الراوي بضمير المتكلم : فكان كلما طرح علي سؤالا و استمع إلى الإجابة ،كان يطلع الحاضرين بمضمونه. حينئذ سأله أحد الأطباء عن اللغة التي أنطق بها، فأخبرهم أنها لغة يتكلمها الهنود في البحيرات الكبرى في أمريكا الشمالية..”[11]، وفي فقرة أخرى من الأقصوصة يتحدث الراوي:” ..رغبت أن أريه الصنم الذي وجدته البارحة. لكنه اختفى مع الأسف من المكتبة. أشعر الآن بالحيرة و الرهبة، و أنا أتساءل: هل الطوطم الذي وجدته حقيقة أم أضغاث أحلام.؟”[12]
تعددت أوجه اللعبة السردية في المحموعة، وتنوعت، وغلب تواجد بعض الأوجه عن الأخرى، وقد رأينا وجه السرد الاسنادي، غير أنه توجد وحدات سردية أخرى ،لا تخلو من ملامح السرد العجائبي، من خلال توظيف المؤلف لموضوعة الحلم، وعوالم ” الطوطم “، وأحداث فوق الطبيعة في الوحدات السردية الثلاث، التي يختم بها المؤلف مجموعته، وهي ” المحفل” – ” النظارات السوداء “، و” طيف أسامة”. فيها يتداخل ما هو واقعي بما هو متخيل.
========
دراسة نقدية خاصة بصحيفة قريش/ ملحق ثقافات وآداب / لندن
عذراً التعليقات مغلقة