في كتاب ” نساء طنجة” للدكتورة زبيدة بن علي الورياغلي
الزهرة حمودان
_____________
ناقدة وكاتبة من المغرب
عرف فن كتابة السير، غزارة وتنوعا، في تاريخ التأليف العربي، أكسب خزانة تراثنا العربي، وفرة وتنوعا، أثارا اهتمام الدراسين و الباحثين الغربيين، فأفادوا منه، و ألحموا من جذوته الوقادة، كتاباتهم في مجال التراجم والسير، وأخبار الشعوب والأمم.
كما تطور هذا النوع من التأليف، خلال سيرورته عبر المراحل التاريخية. ونُحِتت له مصطلحات، وتفرعت عنه تصنيفات، فكان أن ظهر ما اصطلح عليه بالسيرة الذاتية، مقابل ما اصطلح عليه بالسيرة الغيرية، مع تحديد الشروط الإجرائية والفنية، لكل صنف منهما، وهي شروط تقوم على مفاهيم نقدية، تشيِّد لمنهج يبحث في ميثاق كل صنف منهما. و ما الكتاب الذي نحن بصدد قراءته اليوم إلا اقتباس جميل لأحد الصنفين، هو ” السيرة الغيرية”.
تطالعنا الجملة الاسمية، المكونة لعنوان الكتاب ” نساء طنجة الرائدات”، لصاحبته الدكتورة زبيدة بن علي الورياغلي ، كجملة محايدة ، لغتها مباشرة، تقدم موضوع الكتاب للمتلقي، وهويته التأريخية، وهي بهذا تحذو حذو الأوائل في ما كان يعرف بينهم بكتابة السير و تراجم العلماء و الشعراء، واللغويين و المحدثين، وغيرهم . مع إشارة تدعم هذا المنحى التجنيسي للكتاب، تمثلها جملة ” الجزء الأول”، التي تحيل على دلالة أن الكتاب هو مشروع بحث في مجال التوثيق للمرأة و المدينة، ولمراحل تاريخية لها خصوصياتها البشرية والسياسية، والدينية.
تجسد عتبة ” الإهداء”، بلغتها الوجدانية، وصوت ” الأنا “، الذي ينتظم إيقاعها،وتاء التأنيث النائبة عن الأم، والمتصلة بأفعال: وهبتني – حمتني – علمتني، ذلك الحبل السُّري الذي يربط ذات المؤلفة بموضوع كتابها.
يمتد الكتاب على مائة و خمسة و سبعين صفحة، بتقديم علمي– تؤكد قراءتنا للعنوان– بقلم العلامة المغربي، الراحل الدكتور عبد الله المرابط الترغي، وهي تمثل دراسة علمية لتاريخ كتابة سير النساء في التراث العربي. تفيد الباحث في تاريخ الكتابة النسائية. كما تشمل قراءة منهجية للكتاب، تحصي وحداته، وتصنف مضامينها. تنوه بخصوصية ملمح كتابة المرأة عن المرأة، وتكشف عن آليات التوثيق التي اعتمدتها المؤلفة ، وهي تستقصي أخبار شخصيات كتابها.تمد كلمة التقديم – للمتلقي كذلك – إضاءة لها دلالتها الموحية لمنهجية الدكتورة زبيدة الورياغلي في تناول شخصياتها، تقول:” والمؤلفة لا تضيق عن نفسها في اشتراط العلم والفضل في ذكر نسائها، فيكفي أن يكون لهذه النسوة حضور وتأثير في مجال من المجالات: في العلم، أو التعليم، أو الفن، أو العمل الجمعوي، أو على الأقل في احتلال موقع معين رفيع في المجتمع الطنجي خاصة، والمجتمع المغربي عامة، لتجد موقعها في الذكر بين تراجم الكتاب.”
تأتي عتبة المقدمة بعد عتبتي الإهداء و التقديم، وتستهلها المؤلفة بالجانب الموضوعي لكتابها، الذي ينبني على ما يشوب “الكتابة عن تاريخ ودور المرأة المغربية، و إسهاماتها في مجالات الحياة العامة” من تهميش وإهمال، من جهة، وما ينتج عن ذلك من “غياب مرجعيات توثيقية، و مصادر تاريخية للحركة النسائية الحديثة”، من جهة أخرى.
ملخص الكتاب:
يؤرخ الكتاب لسيرورة تعليم النساء بمدينة طنجة، وتأثير نتائجه على الفعل الجمعوي الذي عرف هو الآخر سيرورة متنامية كما ونوعا. كما يؤرخ لمكونين تاريخيين ل منطقة من مناطق المغرب الجغرافية؛ هي مدينة طنجة:
– نساء البلاط السلطاني، من خلال شخصيتين نسائيتين بصمتا المجتمع الطنجي بوجودهما الفاعل و المؤثر كما سنرى.
– التأريخ لمجموعة من المنشآت و المؤسسات العمومية و الخاصة، التي ارتبطت بالحضور النسائي بمدينة طنجة.
التأطير العلمي للكتاب:
تسيج المؤلفة كتابنها بجدية الالتزام والصرامة المنهجية، من خلال محورين اثنين:
I – الأمانة العلمية في مجال التصريح بمصادرها، و التنصيص عليها، والتي يمكن أن نجملها كالآتي:
ü التوثيق بالمشاركة الميدانية – التوثيق بجمع الرواية الشفوية – المساهمة الشخصية للمؤلفة في التأسيس للجمعيات.
ü الإشارة إلى المصادر و المراجع المكتوبة، حتى ولو كانت تقارير لجن تفتيش التعليم الأولي.
II – ترتيب الشخصيات حسب الحروف الأبجدية.
بعد هذه اللمحة المقتضبة، حول الرؤية الموضوعية للمؤلفة داخل منجزها..نلج مشتل الذات الكاتبة، كي نلتقط بعض كوامنها، حيث تتناثر الذاتية في ثنايا الكتاب، وكأنها ذرات انفرطت عن فقرة ألقتها المؤلفة في الصفحة الواحدة و الثلاثين من الكتاب، تقول فيها:” ..طنجة التاريخ و الأسطورة التي وجدت منذ الأزل كانت فضاء للإبداع، ومصدرا للإلهام، ومجالا للتعايش والانسجام، والاندماج بين مختلف الثقافات والأجناس والتعبيرات، والديانات..”، من بقعة الضوء، تبرز الكاتبة رؤيتها الذاتية لمدينتها، دون أن يفتر منهجها الموضوعي، في البحث عن تجليات هذه الرؤية، ومدى تحققاتها خلال فترات زمنية محددة، منذ عشرينيات القرن العشرين، إلى حدود العقد الأول من الألفية الثالثة.تترجم لشخصيتها من خلال علاقتها ببيئتها الأسرية، ثم فعلها داخل مجتمع مدينة طنجة بين ظروفها السياسية، تحت النظام الدولي، والحضور القوي والمؤثر للملكين الراحلين المغفور له محمد الخامس ودوره المؤسس لتعليم البنات، من خلال ترجمتها شخصية الأميرة للا عائشة و خطابها التاريخي في الموضوع، وهي فتاة يافعة. والمغفور له الملك الحسن الثاني و تأسيسه للاتحاد الوطني النسائي من خلال تقديمها لشخصية للا فاطمة الزهراء العزيزية.
تتوالى وحدات الكتاب بمنطقية ، تجليها المضامين التي تسير وفق تنامي الفعل النسائي، ضمن تراتبية تقديم الشخصيات، ومجال اشتغالها. كما ينتظم الكتاب، في نسيج منهج موضوعي، يبدأ بأدوات التوثيق، للشخصية النسائية المترجم لها، وللحدث المميز لزمنها، ثم للبيئة الاجتماعية و السياسية المحيطة بها، والتي يمكن أن نرصدها في :
– ذكر مرجعية استقاء المعلومة، وهي إما مصادر شفوية، أو بحث ميداني
– المقالات الصحفية
– الكتب و المصنفات
– المستندات الرسمية
– الجريدة الرسمية
– عدم التمييز بين عناصر العطاء النسائي بمدينة طنجة، سواء كن مغربيات أو أجنبيات
يؤرخ الكتاب لسيرورة تعليم المرأة في عهد طنجة الدولية، من خلال:
– مؤسسة الأب و الأم و العمة،
– جيل الفقيهات.
– جيل المدرسة النظامية الحرة
– جيل المدرسة النظامية الرسمية التابعة للدول الممثلة بطنجة : انجلترا – إيطاليا – فرنسا – اسبانيا
من المميزات المنهجية للكتاب – كذلك – انه عندما يقدم الشخصية يؤرخ معها للقطاع الذي يتصل بتخصصها العلمي، أو مجال اشتغالها، أو نشاطها الجمعوي، سواء كان التعليم بكل أصنافه التقليدية و العصرية، أو الإعلام السمعي{ الإذاعة الدولية ثم الوطنية }، أو الدبلوماسية، أو الصحافة المكتوبة، والتأليف. مما يجعل من الكتاب مصدرا لمعرفة أواليات بعض أصناف الفعل النسائي بمدينة طنجة، مثل :
– أول امرأة تدخل الكتاب لتعلم القرآن، الأمر الذي كان من قبل مقصورا على الذكور دون الإناث، وهي للا علياء المريني اكعبون
– تأسيس أول صحيفة للمرأة سنة 1981 بالرباط من قبل للا غيثة السملالي
– أول امرأة مغربية بطنجة تولت إدارة ثانوية زينب النفزاوية، كانت هي الاستاذة آمنة الحاج ناصر.
يرى عراب كتابة السيرة الذاتية، وكل ما يُكتب على منوالها، الفرنسي فيليب لوجون، أن هذا النوع من الكتابة، إذا توفرت فيها بنود الميثاق الذي يؤطرها، تعتبر مرجعا مساعدا لعلم الاجتماع. و كتاب ” نساء طنجة ” هو بالاضافة إلى ذلك ، يوثق لتاريخ ظهور مؤسسات المجتمع المدني بطنجة. و دور صنف نسائي آخر وازن وفاعل، يستحق أن يخصص له بحثه الخاص، وهو ما وسمته المؤلفة ب ” المعلمة دلبلاد “، في مجال الخياطة و التطريز، وعلاقة هذا الأخير بأواليات الفن التشكيلي النسائي المغربي.وهو نفس السياق الذي ستدرج فيه العوامل التي أدت إلى تطور مفهوم المسرح في ذهنية المثقف و المثقفة الطنجية، ومن ثمة ظهور جيل الرائدات في هذا الفن الدخيل على الثقافة العربية/المغربية. شأنه في ذلك شأن الفن التشكيلي. بالاضافة إلى رائدات فن الموسيقى و الغناء بطنجة.
________________________________________________
دراسة نقدية خاصة بصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة