بكاء على الضاد
خالد بريش
كاتب لبناني مقيم في باريس
كُتب لفواز أيام الطفرة البترولية، العمل في حقل التدريس في إحدى دول الخليج، التي كانت في طوْر البناء أو البحث عن نفسها. ومما لفت انتباهه وفاجأه حينها كثرة العمالة الآسيوية…! إلا أن ذلك لم يكن بالنسبة إليه بالأمر المزعج. فقد كان الإعلام يُبرر ذلك برخص تلك العمالة، وأيضا سهولة تطويعها. ولكونها عمالة لا تهتم بالسياسية، ولا بالأوضاع الداخلية لتلك البلاد. فكل واحد في عمله، ومجاله، وشؤونه الخاصة، يعيش على هامش ذلك المجتمع. ولا يخرج أحدهم عن تلك القاعدة التي اشتهرت حينها بين العاملين: عمل ونوم وأكل وشرب وتلفزيون.
كان فواز ينتظر يوم الجمعة لارتداء اللباس العربي، الذي يسمونه: الثوب، أو الكندورة، أو الدشداشة، تبعا للهجة كل بلد. كان يشعر بالراحة عندما يلبسه ويتجوَّل به، فينتابه شعور بأنه في رحمه، وعمقه العربي، وصحرائه، ورمالها الصامدة. بل تبلغ سعادته مداها عندما كان يذهب في فسحة إلى البر مع بعض أصدقائه، فتداعب أقدامه رمالا مشى عليها الأجداد يوما. أو يُلبي دعوة أحد المواطنين له في مزرعته، وقضاء يوم عنده بين النخيل، قرب فلج ماء صغير. وخصوصا عندما يكون من بين الحضور، بعض كبار السن ممن لهم خبرة بالحياة، وبالصحراء ومداخلها ومخارجها والحياة فيها. فيتشعب الحديث إلى بعض الأمور المتعلقة بالنخيل وأنواعه، والنوق وتربيتها، والخيل وحبه لصاحبه، والصحراء وطبيعة الحياة فيها وتقاليدها، والأنواء، والرياح، والنجوم وبيوتاتها الخ…
ولِمَ لا يفرح ويُسرُّ…!؟ أليست هذه بيئة العرب الطبيعية…؟
بل كان وقلة قليلة من أصدقائه يتحرشون ببعض المواطنين أحيانا، ويطلبون منهم أن يحدثوهم عن كل ذلك. فيفرح المواطنون الذين كانوا يرددون فيما بينهم أن الوافدين حضروا إلى بلدانهم من أجل هدف واحد أوحد وهو: الفلوس… وها هم أولاء أخيرا قد اهتموا بهم وبعاداتهم وتقاليدهم. كان فواز وبعض رفاقه حينها، يعتبرون أن ذلك عيب في أفراد الجالية العربية الوافدة، ونقص في مكونهم الثقافي، لأنهم لا يعرفون، ولا يريدون أن يعرفوا شيئا عن بيئة العروبة، وعاداتها وتقاليدها التي أنستهم إياها المدنية، ونسختها بالتالي من قواميسهم. بل كانوا يقضون طيلة أيامهم في تلك البلاد بتأفف وتذمر، متجاهلين عجلة الحياة، وطبيعتها من حولهم.
وعندما انتقل فواز إلى غربته الأوروبية، كان شوقه للنخيل، والصحراء، والمدى والامتداد، وجمال بساط النجوم في السماء، وتلك البلاد يتساوى مع حنينه لبلده الأم، بل أحيانا أكثر. لأنه التقى هناك ولأول مرة بعُمْقه، وتقاليد العروبة، وسافر خياله على وقع سنابك الخيل، وتفعيلات بحار شعراء ما زالت الشفاه تلهج بقصائدهم. وعاش عادات وتقاليد البداوة الأصيلة. وتعرَّف أيضا إلى القبيلة، وعاداتها، وأخلاقها، وتراثها، والعصبية العروبية التي هي أساس في حياة القبيلة. ورأى بأم عينيه، كيف يعيش افراد ذلك المجتمع في حالة من التسامح الديني، بعيدا عن التعصب، والفذلكات اللغوية المُتقعرة التي تُفْسد الذوق والنص. ولا يعرفون أيضا الحَرَكية، والانتماء الحزبي، ولا المناورات والتكتيكات، والألاعيب التي أفسدت أكثر مما أصلحت. التقى فعلا ببسطاء يحملون إيمانا فطريا متسامحًا سَمِحًا حميمًا في آن معا.
وشاءت الظروف بعد سنوات طوال، أن تحط الرحال بفواز من جديد، في أحد مطارات تلك البلاد، الرحم، والحضن. وكان لدى انتقاله من المطار إلى الفندق، يوزع نظراته على طرفي الطريق الخاوية، لكون اليوم هو الجمعة، يوم العطلة الأسبوعية. متعجبا مما حدث في تلك الديار من تغيرات، وتبدلات، على الصعيد المعماري، والعمراني. وسُرَّ كثيرا، لأنه وجد بلدا عربيا يزدهر بهذه السرعة، ويتقدم بهذه الدرجة. فابتداء من نظافة الشوارع المليئة بالزهور، وحسن تنسيقها الذي من الممكن التفاخر به حتى على أوروبة. وانتهاء بالعمارات الضخمة التي تشق السحاب، وتضاهي ناطحات السحاب الأميركية جمالا وهندسة. وكأن عفاريت النبي سليمان هي التي رتبت حجارة أبنبتها، فشقت غيوم السماء.
كان ذلك أشبه بسيمفونية، لا يمت واضعها بصلة لذلك التاريخ المتعانق مع البداوة والصحراء، وكل ما ألفه العرب قبائل وشعوبا في العصور الغابرة. إنها لوحة جديدة تنبض بالمدنية والحداثة، بل تتربع على عرشها بلا منازع…!
وصل فواز إلى الفندق، ووقف في ردهته مشدوها بترتيبه الذي يبهر الناظرين، ويأسر عقولهم. تقدم بهدوء إلى إحدى الموظفات العاملات في الاستقبال والحجوزات مبتسما، محييا. وكان قد سبقه إليها أحد القادمين الأوروبيين الذي أخذ يتحدث إلى تلك الموظفة بلغة عربية فصحى، غير ملحونة، كخارج لتوه من بني تميم أو من مدرسة البصرة. فاستفسرت الموظفة التي لم يعجبها تصرفه، إن كان يجيد الإنكليزية…؟ فاستغرب منها ذلك…!
رد عليها، محاولا إفهامها بأنه وحسب ظنه أنه في بلد عربي، وأنه يحب هذه اللغة، والحديث بها، ويعشق ذلك، وبأنه من المسلمين. لتردَّ عليه الموظفة وبشيء من العنجهية بأن هذا لا يعنيها. وتزيد على ذلك بأن جواز سفره يدل على أنه من بلد مُتحضِّر، وهو ليس بعربي. فلماذا يُتْعب نفسه في الحديث بلغة لا يحبها أهلها، ولا يتحدثون بها، بل يأنفون منها…!
استفذَّ هذا الموقف والنقاش فوازا، وتدخل قائلا للموظفة، بأن الدول الأجنبية أصبحت ومنذ مدة توظف في فنادقها على الاستقبال من يجيد العربية. وطبعا من باب أولى أن يكون في البلاد العربية العكس. مما جعل موظفة الاستقبال تزداد غطرسة، وتقول لفواز والزبون الأوروبي، إنَّ هذا الفندق لا يوجد فيه من يتكلم العربية، وإذا كان هذا لا يعجبهما، فما عليهما إلا الذهاب إلى فندق آخر يتكلمان فيه اللغة التي يريدان. وتضيف معقبة:
Arabic language : what is it ?
For most people, it is the language used by of tribes of Bedouins, moving with their camels in some desert… English language, on the other hand, is considered as the vehicle of civilization science and progress. Therefore, no one, in the civilized world, is supposed to have respect the first of these two languages.
تركت الموظفة مكانها وراء مكتب الاستقبال غاضبة، ودخلت إلى مكتب خلفه، بعدما أغلقت الباب وراءها بقوة وعصبية، فسُمِعَ من جراء ذلك صدى قوي هزّ النوافذ والأبواب. تضايق فواز وانفعل، وكاد قلبه يتفطر وهو يرى كيف أن أوروبيا حضر إلى بلاد العروبة لكي يتكلم لغتها، مفتخرا بمعرفتها بعدما درسها وتمكن منها. فوجد نفسه أمام موظفة وضيعة، تعطيه درسا بأنه أساء في اختياراته. وتحتقر أيضا اللغة التي أحب، ولغة أهل البلاد التي أعطتها عملا، ومرتبا قد لا تحلم بعشره أو فتاته لو بقيت في بلدها…
ما وجد فواز من سبيل سوى تهدئة روع ذلك الأوروبي، والانزواء بعيدا في ردهة الفندق، والاتصال عبر هاتفه المحمول بالفندق، وكأنه يتحدث من الخارج. طالبا من عامل البدالة (الاتصالات) الحديث إلى المدير المناوب للفندق، الذي أفهمه بأن هناك مشكلة في مكتب الاستقبال في فندقه. طالبا منه الحضور لحلها فورا. وما هي إلا دقائق حتى وجد فواز نفسه أمام المدير الذي ينتمي إلى إحدى الجنسيات العربية. فشرح له ما حصل، والإهانة التي تعرضا لها. فتفاجأ فواز من رد المدير العربي الذي قال له:
- ألا تجد أن هذه الموظفة معها حق… وأن العرب نسوا لغتهم، وتاريخهم، ومزقوا دفاتره…؟
- أي حق هذا الذي تتحدث عنه…؟! نحن هنا في بلد عربي، والفندق أصحابه عرب، ومن حق الزبائن اختيار اللغة التي يريدون. أما أن تأتي موظفة وضيعة تحتقر لغة البلد الذي تقيم وترتزق فيه، فهذا أمر غير مقبول على الإطلاق…!
- إنها هندية يا عزيزي، ولا تعرف العربية. وعليكما أن تعذراها…
- أن نعذرها لعدم معرفتها باللغة، فهذا أمر منفصل عن إهانتها للغة العربية، وللعرب تاريخا وحضارة، وما قالته بهذا الخصوص… ولا أظن أن أحدا من المسؤولين في هذا البلد يرضى بسماع عباراتها التي نطقت بها منذ قليل…!
- إنك يا عزيزي تُكبِّر الموضوع أكثر من اللازم وتُخْرجه عن إطاره…
- لا… عفوا… أنت الذي وضع الموضوع في سلة المهملات، وجعل من الإهانة وجهة نظر…! وأحب أن أقول لك إنه في أوروبة لا يستطيع موظف في فندق، ولا في غير فندق، أن يقول عن العرب ولغتهم ما قالته موظفتكم المحترمة التي تدافعون عنها. وإن القانون هناك في بلاد الكفار كما تصفونها هنا، سوف يكون إلى جانبنا إذا ما لجأنا إلى القضاء، واتهمناها بالعنصرية…
- على كل حال ما حدث، قد حدث… وأرجو أن تتقبل اعتذاري أنت وصديقك، وترتاحا في غرفتيكما. وأن يتوقف الموضوع عند هذا الحد… وإن أحببتما الذهاب لفندق آخر، فلكما الخيرة من أمركما، وسوف نتغاضى عن موضوع حجزكما.
أصر الأوروبي الذي كان منفعلا للغاية عندها، أن تعتذر له الموظفة بنفسها… وهنا كانت المفاجأة عندما أجابه مدير الفندق بأنها لا، ولن تعتذر من أحد. وبأنهما يستطيعان مغادرة الفندق فورا… وكأن الموضوع شبه طرد…!
خرج فواز من الفندق بصُحْبة ذلك الأوروبي الذي ظن خطأ بأن قحطان، وغسان، وقريش، وكندة، وعدنان… ما زالت مضاربهم عامرة، وراياتهم مرفوعة، وخيولهم مُسْرجة… وأن الكُرْه والعُنصرية ضد العرب موجودان فقط في الغرب. وأنه لم يخطر على باله البتة أن تكون العنصرية ضد العرب، وكرههم في عقر دارهم… وإلا فهذه سوريالية، وضرب من العبث غير المفهوم على الإطلاق…!
ذهب الاثنان إلى فندق غير بعيد عن الفندق الذي كانا فيه، ومن دون الدخول في جدال مع موظف الاستقبال، قاما بالإجراءات، وذهب كل واحد منهما إلى الغرفة التي أعطيت له. استلقى فواز على سريره، وأخذ فكره يصول ويجول بالذي حدث معه منذ قليل. وهو الذي رفض يوما مجرد التفكير في تقديم طلب من أجل الحصول على جنسية البلد الأوروبي الذي يقيم فيه، حتى لا يُقال عنه يوما إنه تناقض مع ما كان يدعيه من عروبة وانتماء. على الرغم مما سوف تُسهله له الجنسية من حرية تنقل في أرجاء العالم، بالإضافة للحماية التي توفرها البلاد الأوروبية لرعاياها، حتى وإن كانوا خارج أراضيها. وهو الأمر الذي لا تعرفه بعد أنظمة بلادنا العربية، وقد تحتاج إلى سنوات ضوئية لكي يعرفه مواطنوها…
ابتسم للحظة، وتذكر ذلك الشاعر الذي كانت كلماته في مرحلة الشباب قاموسا لمفردات الثورة والرفض. والذي طالما ردد هو وأبناء جيله كلماته التي عاش بعضها واقعا منذ قليل، فأخذ يتمتم بها بحزن وأسى:
أتيت دمشق أحمل قرط بغداد السبية
محمولا على فرس من النسب
دخلت المسجد الأموي
فلم أعثر على أحد من العرب
قرأت الفاتحة بالعبرية الفصحى
فضج الحان بالأفخاذ والركب…
ثم أغمض عينيه، واستسلم للنوم الزاحف على روحه وكيانه، حالما بيوم آخر…
===================================
قصة خاصة بصحيفة قريش- ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة