الكاتب الجزائري محمد جعفر يبتكر لغة الألم في قصص قصيرة

20 نوفمبر 2018
الكاتب الجزائري محمد جعفر يبتكر لغة الألم في قصص قصيرة

خالد ابريش 

كاتب لبناني مقيم في باريس 

« ابتكار الألم »، عنوان استفزازي اختاره الكاتب الجزائري محمد جعفر عنوانا لمجموعة القصصية الجديدة، الصادرة مؤخرا في بيروت عن منشورات ضفاف. عنوان يدفعنا لأن نطرح على أنفسنا سؤالا: 

  • هل الإنسان فعلا يبتكر الألم في تصرفاته، كما يبتكر الحياة والفرح…؟ 

يقوم الكاتب محمد جعفر بالإجابة على هذا السؤال الأحجية من خلال قصص قصيرة يقدمها للقارئ العربي، وتأتي كومضة لتنير مكانا ما في زوايا العقول، في هذا الوقت الذي تطفو على السطح أيضا مشاكل كثيرة، ما كنا نحسب لها حسابا، ولم نكن ندرك مدى خطورتها ولا تعقيداتها.

تنتمي هذه المجموعة القصصية إلى السرد الواقعي، فنرى أن الكاتب يتناول القضايا والمشاكل المُعاشة، ويكشف عن خباياها بكثير من الحرية والجرأة، دون خوف من تسمية الأشياء بأسمائها، أو فتح للجروح الممتلئة بالصديد، والتي يحاول كثير من الكتاب المرور بها دون نكْئِها خوفا ورهبة. 

يغوص الكاتب في أعماق الشخصيات التي يتحدث عنها، وتعرضها لنا سطوره. ولأن الأحداث في حياتنا أصبحت تتكرر حدثا وراء حدث، وتتشابه كلها بداية ونهاية، وخرابا وتخريبا، فإنه يكرر تفاصيل إحدى أقاصصه المؤلفة من ثلاث حركات، أو ثلاثة مشاهد كمسرحية متكاملة، دون زيادة أو نقصان. وفي ذلك إشارة إلى الذين يكررون أنفسهم وأخطاءهم يوما بعد آخر، وحادثة بعد أخرى، ويتكرر بالتالي التاريخ أمام ناظريهم لأنهم لا يقرأون، ولا يحسنون تفسيره، أو التعلم منه. فتغدو الحياة بالنسبة لهم عبارة عن مشاهد، أو لوحات تحل واحدة مكان أخرى، بنفس المقاس والتفاصيل…

وقد اختار الكاتب الشك كمدخل لعوالم سرده وأقاصيصه، لكونه مدخلا إلى عالم اليقين والحقيقة. فتوصل الأحداث القارئ إلى يقينيات يكتشفها شيئا فشيئا من خلال الدخول في التفاصيل التي تثيره، وتدفعه إلى التفكير. فيطرح على نفسه أسئلة كثيرة حول المشاكل التي تعترضه أو تحيط به، كعلاقة المرأة بالرجل بعد الزواج. وفرض الرجل لهيمنته، وإرادته على زوجته لكي تترك عملها، وتتخذ من بيتها مقرا لها. وخصوصا عندما تكون الزوجة متعلمة، وأكثر ثقافة وحنكة ومعرفة من الزوج المختبئ وراء شاربيه، والمتذرع بالأولاد، وتربيتهم، والعناية بهم. بينما يكون في الحقيقة يريدها خادمة عنده ورهن إشارته كلما هزَّ بإصبعه، تمضي نهارها غارقة في البهارات، ومواعين الطبخ…!

ليجد ذلك الزوج نفسه بعد فترة أمام امرأة قد ترهَّل جسدها، وأصبحت كرغيف خبز بائت، وقد فقدت حُمْرة خديها، ونضارة طلعتها. مما يعطيه حجة إضافية لكي يبحث عن ملذاته من خلال زوجة أخرى، وربما من خلال علاقات حميمية لا يقره عليها مجتمعه…!

ويتناول الكاتب في قصة أخرى، أهم حدث في تاريخ الجزائر الحديث بعد الاستقلال، وهو حادث اغتيال الرئيس الأسبق محمد بوضياف. الذي هزّ الجزائر، ووجدان الجزائريين، وغير كثيرا من المعطيات. بل غير المسار الديمقراطي، والإنساني في الجزائر، وخلط الأوراق، وقلب المعادلات.

لينقلنا بعدها عبر مراكب سطوره إلى الأحداث التي جرت في الجزائر خلال العشرية الأخيرة من القرن الماضي. فيحدثنا عن الاغتيالات المجانية، والاعتقالات التعسفية، والمحاكم الصورية. وعن أناس تحملوا وِزْر جرائم لم يرتكبوها، ولا علم لهم بها لا من قريب ولا من بعيد. ولكن لا بد من مجرم لأي جريمة، فقاموا بالجريمة ثم اخترعوا المجرم المناسب، وعلقوا عليه كل الأوساخ التي تُبرئهم كمجرمين…!

ويتطرق في أقصوصة أخرى إلى ذلك الغريب الذي يعود إلى وطنه حبا وهُياما فيه. فيتنكر له وطنه، وأبناء بلده، ولا يتعرف عليه أحد. فيغدو غريبا في وطنه، وبين أهله، لكونه لم يعاصر الحدث، ولم يشارك في صناعته، ولكن عليه أن يتحمل نتائج ذلك السلبية. ويبقى في كل الأحوال وفي نظر الجميع مُتهما مرتين: الأولى لأنه تغرب؛ والثانية لأنه عاد…!

ونراه في قصة أخرى، يفتح للقارئ نافذة على عالم الثقافة، فيقص عليه بشكل تهكمي مؤلم بعضا من عوالم الكُتّاب والشعراء، وهي عوالم يعرفها الكاتب جيدا. فيتعرف القارئ بالتالي إلى شيء من مآسيهم الإنسانية، ومشاكلهم النفسية، وبيئتهم، ونسائهم، وبعضا من تفاصيل حياتهم الخاصة… وينتقي لأقصوصته هذه بطلا، إنسانًا فقيرًا مُعْدمًا، يعيش في عوالم الوهم، فيقرر يوما أن يكون كاتبا في مجتمعات لا تقرأ أصلا. ومع ذلك يأمل أن يأتي يومٌ يتوج فيه كاتبا كبيرا. فيبدأ وبشكل كوميدي لبس ثياب كاتب اخترعته مخيلته، متصورًا ذلك البائس أن للكتابة طقوسها الخاصة بها من سهر، وفناجين قهوة، وإحراق سجائر، وغرق في سوداوية… 

وفي أقصوصته المعنونة « اللبن الطازج »، والتي يرمز من خلالها إلى أمور كثيرة من وطن ومُواطن ومَسْؤولين، يتيه فيها ولد خارج من مدرسته فينشغل بحاله صارخا معلنا ضياعه بعدما اتبع الآخرين الخارجين من المدرسة مثله. فسار خلفهم ليصل إلى مكان آخر لا يعرفه…! فيرتبك، ويأكل الخوف والقلق دواخله، ثم يكتشف بعدها أنه كان خلف العمارة التي يسكنها، أي خلف الطريق الصحيح. فلم ينم ليلتها، ولا الليالي التي تلتها، وهو يفكر في الموضوع، ويطرح على نفسه الأسئلة…

وإن كان الإنسان في عالمنا العربي يتشارك في كل المآسي الواردة في هذه المجموعة القصصية تفاصيلا وألمًا، فإنه مما لا شك فيه يتشارك أيضا في القضية الفلسطينية التي وصلت إلى مرحلة الاهتراء، بعدما أفرغت من مضمونها، ولم يبق منها إلا الكوفية، وبعض الشعارات، والخطب العصماء التي تُلقى هنا وهناك، وفي المهرجانات، وبعض المقالات المنشورة في الزوايا الخلفية للصحف…

« ابتكار الألم »، مجموعة قصصية تطرح كثيرا من الإشكاليات على مائدة القارئ، وتفرض نفسها عليه، وتُحْدث هزات قوية في تفكيره، ليبقى السؤال الكبير مطروحا: هل نحن فعلا نبتكر الألم…؟

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com