قصة قصيرة
بديعة و بدر و آخرون …
رشيد سكري
قاص من المغرب
يزحف الخريف على الأرصفة و الأفاريز… ناشرا سحابات قطنية على هامات البيوت الواطئة ، مصابيح غافية و مويجات تلفظ آخر أنفاسها على الشاطئ المغبش . على إيقاع الغنج و الدلال ، قطعا معا المساءات الندية ، حتى وصلا جسر العبور الآمن . قالت بديعة : يسعفني الكلام ، عندما نحتفي بهذا الامتداد الأزرق. نظر إليها بدر، ماسحا رذاذا رُضابيا على جبينها كحُبيبات زُمردية ، تتخاطفها الألوان. وقال : أنت شاعرة بالدَّواخل ، لا تراجع و لا رجوع .اِحفظي القوافي…فالزمن الشعري آت ، كالطوفان … يقتلع الأغراس و يقيم الأعراس. قالت بديعة : الجدب كل الجدب … عندما تحتد الريح ، لن أنظر إلى الوراء. هاهي الشمس ترسل الوداع مع آخر نورس نخره الانتظار… ويبتلعها الازرق الكتوم. طاف حولها متلمسا بكلتا يديه بطنها ، الذي يزداد انتفاخا يوما عن يوم . قال لها ، وهو يجلس القرفصاء : متى سيرى النور هذا الجهمي ؟ أجابته ، و هي تهز نظرها إليه من تحت رموشها الفحماء : بالأمس كنت أنا و ميسان عند الطبيب ، أجرى لي كل الفحوصات اللازمة ، فبدا الجنين و المشيمة في صحة جيدة ، قاس الأطراف و النخاع و حجم الدماغ أيضا . تبسمت بديعة فظهرت أسنانها مرصّعة بيضاء كالبرَد ، وقالت : انتهى ، إلى حين ، التاريخ الدموي إذن … قاطعها بدر واضعا راحة يديه على فمها .وقال: لا تقولي ، إنك لا تعرفين جنسه ؟ أطبق السكون على المكان ، إلا من هدير مويجات حالمة تلهو كطفل ، و ترغو فوق أحجار الفيروزالبيضاء و الأرجوانية . أخذت واحدة فأرسلتها بعيدة في الزحمة بين الظل و الماء. فسح لها الطريق ، فنزلت كسيدة الضوء نحو شاطئ باردةِ رماله. قالت بديعة : قرأت ، في بعض المجلات المتخصصة ، حديثا عن سلوكيات الأجنة في الأرحام ؛ تأخذ الأنثى في الجهم المنحى العرضي، وتبدو منكمشة على نفسها في طقوس الولادة محافظة على جسدها الذهبي ؛ وتظل ملتصقة الساقين. بينما المخلوق الذكري يأخذ المنحى الطولي، ويثور رافضا هذه العتمة، التي تصفده و تكبله… ويشرع في الركل والرفس … يتذوق مرارة الحياة ، بما هي صراع في صراع … وفي هذا ينشدان أسطورة العيش الأبدي . رفعت بديعة فستان اللِيكْرا الأحمر بقماشه الناعم ، ذا عروة وحيدة جهة الظهر ؛ فكشفت عن ساقيها وبطنها. تحسس بدر بأذنه كل مناحي جسدها العاري السبط الأملس، و قال: إنني أسمع غيثك غيثك الميمون أصواتا ، تناديني من أعماق جسدك الغوير… أصوات ترسل عبر أثير السوائل ؛ التي تسبح فيها الحياة. أسدل بدر ستار قماش اللَِيكْرا على الجسد الفارع ، وأخذها بين ذراعيه ، فبدت كعصفورة ضمها الخريف. 2. تذكرت بديعة ما قالته أمي طاما ، عندما لفت بطنها بخيط الفتيل الأبيض، و بقياسات جدولة و تمتمات غريبة… تستطيع أن تكشف عن سر من أسرار طوق الرماد الداجي بين العَتْمة والضوء ؛ أسرار الأجنة . وضعت أمي طاما على حبل غسيل جدولا ، ذا تربيعات متداخلة ، فبدأت تنط من فوقه بقلم الأبنوس المخضل بالحناء ، الذي يجلب السَّعد ؛ إلى أن توقفت قطيرات الحناء على تربيعة قصية … فتقرؤها… قارئة التربيعات !
رفعت بقعة الحناء في الضوء بين الارتواء و الاجتفاف. فظهر الجسد المرمري الممشوق، يُدق فيه الانتفاخ رويدا… رويدا. وصاحت : وجدتها ! وجدتها!
=============================
قصة خاصة بصحيفة قريش – ملحق ثقافات واداب. – لندن
عذراً التعليقات مغلقة