الحب المصلوب ..قصة للكاتبة الجزائرية عائشة قواتي

17 ديسمبر 2018
الحب المصلوب ..قصة للكاتبة الجزائرية عائشة قواتي

الحب المصلوب

عائشة قواتي 

قاصة من الجزائر

   في ساحة بيضاء وشاسعة على مد البصر، كانت فتاة صغيرة من عقد الورد تجلس على حافة أطرافها، تستجدي ماءا لتروي عطشها وتغتسل ظلمتها التي عمت جسدها وبصرها حتى ركام حياتها المبرقعة بنقاط السواد على البياض.. تجري دمعاتها على مستقبل بات مظلما ضبابي الصورة بعيد البداية قاتم النهاية.. تبكي نقاطها السوداء التي لم تجد لها ماء لتغسلها وتزيلها من بياض جسدها الثلجي اللون أملس اللمسة.. نحيف القد، جميل الطلعة، أزرق العينين.، أصفر الشعر أميرة على ذاك البيت الأبيض المترامي.

   إذ بخيال يتقدم نحوها كخيط رفيع يبان لها من بعيد وهو يرمي الخطى إلى ناحيتها يأكل المسافة أكلا لتجده أمامها منتصبا ترى فيه العجوز الشاب البهي الهيئة وسيم المنظر عينيه كزرقة البحر التي لونته السماء بلونها الأزرق الصافي.

   حارت وجود هذا الكائن في مرابعها التي ألفتها لوحدها دون شريك، انتفضت لنظراته الحادة دون حتى أن تفهم سبب وجوده، ومن أين أتى؟ ومن هو؟.

   ربما العطش أعمى بصيرتها فأصبحت لا ترى بنورها ولا أن تتقصى عمن يزورها أو أنه آلهة الحياة نزلت لتأتيها بماء يرويها ويبدد جفاف عروقها.

انزوى خارجا من ساحتها إلى حيث لا يدري، لماذا أتيت إلى هذه المرابع  بالذات؟

حثت الخطى ورائه لتسأله عن ما هيته ولِمَ يدوس أرضها دون سواها.. اختفى كأن يدا انتشلته في غمضة عين.

   بقيت تندب حظها وتواسي وحدتها التي كان من الممكن أن تجد من يؤنسها فيها.. طافت السبع أشواط في مساحتها المقفرة لعل وعسى أن تنفجر عينا مقدسة تقتل ذاك العطش اللعين الذي أعمى قلبها وبصرها على ضيفها الذي زارها دونا عن غيرها، وكيف لها أن تجده مرة أخرى لترضي غرورها بالتساؤل عنه، وعن هويته، وعن سبب تمسكها بطيفه وملامح رجولته المشعة.

   انزوى هذا الشبح الشاب على حواف أرضها البيضاء، يراقب حركاتها وسكناتها، وسعيها لإيجاد قطرة ماء تبلل عروقها التي نشفت، وتعيد لها نظارتها وعقلها الذي أذهبه العطش.

   رق لضعفها ولأنوثتها التي تذبل بمرور كل دقيقة وبعمر مسافة الحياة عن الموت.

تنهض وتسقط، وتنسحب على جسدها ماسحة أرض مرابعها زحفا وحبوا لعل وعسى آلهة الـجَمال والغيث أن تغيثها مما هي آيلة إليه.

   انتصب أمامها على حصانه الأبيض الجميل كبراق النبي الذي قرأت عنه في قرآنها دستور دينها، وهي تصفه بكلمات مقدسة، ومما تحفظ منه، وهو واقف يسمع ما لم يسمعه قبلا.

 سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا  حوله….

   هل ممكن أن يكون الحصان الذي عرج عليه رسول لله إلى السماء مثل هذا الحصان الأبيض الجميل الناصع البياض اللامع  العينين.

أريد ماء أروي به ظمئي، هل أنت إله الماء؟

ارويني أرجوك، جفت عروقي، وانطفأت بهجة وجهي، ذبلت عيناي، ولَم أعد أرى ملامحك جيدا.. صحيح من تكون؟ ولِمَ اخترت أرضي لتحط عليها رحالك.. أراك شيخا في عمر الشباب.. أنتَ وسيم، وجميل يا هذا.

وهل أنتِ في مرابعك حقا لتمرحي فيها هكذا؟ وتبحثين فيها عما ليس لكِ.. ثم إنها مهجورة منذ عقود جف منها كل شيء، وماتت فيها كل ألوان الحياة، وهجرها صاحبها، وأهله إلى ما وراء الأبدية فكيف استوليت عليها؟ وجعلتها أملاكا تدافعين عليها بلا هوادة.

أليست من أملاكي؟ إنها مساحتي، وقد سكنتها منذ زمن دون أن يعارضني أحد فلِمَ تعارضني أنتَ اليوم، وتقول ما قلت؟

 من تكون لتنكر عليّ أملاكي وفضائي الأبيض هذا؟

أنا دليل الحب.. أنا خمرة النفس.. أنا وردة أفتح قلبي عند فتوة النهار فتأخذني الصبية وتقبلني، وتضعني على صدرها.

أنا بيت السعادة.. أنا مصدر الفرح، أنا مبدأ الراحة.. أنا موحي الشعراء، وهادي المصورين، ومعلم الموسيقيين. 

أنا نظرة في عين طفل تراها الأم الحنون فتسجد وتصلي وتمجد الله.

تجليت لآدم بجسم حواء، وظهرت لسليمان فصيرته حكيما شاعرا.. أنا كالدهر أبني اليوم  وأهدم غدا.. أنا أحي وأميت.. أنا حقيقة، وهذا غير ما تعلمون.

أنتَ شاعر إذن أو رسام أو…

لا تكملي مهما تحاولين، لا تعرفينني.. المهم الذي يجب أن تعلميه أن هذه المساحة الصفراء أو البيضاء كما تتراءى لكِ هي مجالي غير المتناهي، وهي بلادي التي أحبها، وللحب ألف عين ترى وألف أذن تعي.

ولولا علة في جسم بلادي لما بقيت على العهد، ولا صرفت الليالي بين ذكر وتشويق.. أحببت بلادي مبصرا، والحب إذا فقد بصيرته ينقلب جهلا، والجهل في الحب يضر المحب، ويغش المحبوب.. أحببت بلادي مفكرا، والفكر في الحب لا يتوهم الهزل .

_ ولِمَ تركتها جرداء هكذا حتى قطرة ماء لا تحتويها، وحتى شجرة وارفة الضلال لا تنبت فيها، وحتى وردة نشمها لا تزينها، ولا حيوان، ولا طائر، ولا..

ما قصة هذه البلاد التي أحببتها؟ وهي مقفرة حتى من نبضات قلبك وشهقات صدرك؟ ومن آثار قدمك ومن كلمات قلمك.. إذن كنتَ حقا مفكرا ورساما؟

كيف أحببتها إذن.. أيها الغائب الحاضر؟

أظنك شبحا تحدثني، أتيتني من آثار عطش يقتلني، ويفتح لي أبواب المنية الجائرة التي تأخذ عرائس مروج فتية تحدق إلى الشمس بأجفان جامدة، وتقبض على النار بأصابع غير مرتعشة  وتسمع نغمة الروح.

_ إلى أين تسيرين بي أيتها الساحرة؟

   إلى متى أتبعك في هذه الأرض القفار البيضاء أو الصفراء المترامية بلا صخور منسابة وبلا أشواك مغروسة متصاعدة بأقدامنا الهابطة بنفسينا إلى الأعماق؟ قد تمسك بأذيالك، وسرت وراءك كطفل يلاحق أمه متناسيا ما بي من ألم محدقا بما فيك من جَمال متعاميا عن مواكب الأشباح مجذوبا بالقوة الخفية الكامنة في جسدك.

قفي بي هنيهة لأرى وجهك.. انظري إليّ لعلي أرى في عينيك أسرار صدرك، وأفهم من ملامحك مخبآت نفسك.

قفي فقد بلغنا ملتقى السبل، حيث يعانق الموت الحياة، ولن أسير خطوة حتى تستعلن روحي نيات روحك، ويستوضح قلبي خزائن قلبك.

_ وهل إذا توقفت تستطع سبر أغواري؟ وتسمع في داخلي نياح عروق قلبي تصرخ من جفاء دمها ودمعات عيني تفك قيد أسرها وارتعاش أوصالي تحارب جنون توقها.

ما الذي ستبصره من دواخلي التي ماتت في كفن ظلم العبودية وخوف المصير وبقاء الأسير؟.

ياااااه.. أيتها الساحرة تكابدين الكثير.. اسمعي، بالأمس كنت طائرا حرا أتنقل بين السواقي، وأسبح في الفضاء، وأجلس على أطراف الغصون متأملا القصور والهياكل في مدينة الغيوم.

بل كنت كالفكر أسير منفردا في مشارق الأرض ومغاربها فرحا بمحاسن الحياة وملذاتها مستقصيا خفايا الوجود وأسراره.. بل كنت كالحلم تحت جنح الليل أسعى تحته، وأدخل من شقوق النوافذ إلى خدور العذارى النائمات، أتلاعب بعواطفهن ثم أقف بجانب أسرة الفتيان،  وأثير أميالهم، وأجلس بقرب مضاجع الشيوخ،  وأستجلي أفكارهم. 

_ وأنا مثلك، أريد أن أكون هكذا حرة منطلقة أستجلي أسرار الكون، وأطوف بين مكنوناته  ألمس بقلبي حقيقة مخلوقاته أقرأها على صفحات جسدي ليراها من هم خارج دائرتي.. فهل يمكنني أيها السيد القريب البعيد؟.

_  وكيف أكون قريبا وبعيدا، وقد لقيتك أيتها الساحرة؟

    تسممت بقبل يديك فقد أصبحت مثل أسير أجر قيودي إلى حيث لا أدري بل سرت مثل نشوان أستزيد من الخمر التي سلبتني إرادتي، وألثم الكف التي صفعت وجهي.

 ولكن قفي قليلا أيتها الساحرة، ها قد استرجعت قواي، وكسرت القيود التي برت قدمي  وسحقت الكأس التي شربت منها السم الذي استطبته فماذا تريدين أن نفعل، وعلى أي طريق تريدين أن نسير؟.

لقد استرددت حريتي فهل ترضين بي رفيقا حرا.. فهل تصحبين فتى يصرف الأيام متنقلا كالنسر بين الجبال ويقضي الليالي رابضا كالأسد في الصحراء؟.

هل تكتفين بحب رجل يتخذ الحب نديما، هل تقنعين بشغف قلب يهيم، ولا يستسلم، ويشتعل لكنه لا يذوب.

هل ترضين بي صاحبا لا يستعبد ولا يستعبد؟.

_ ما نوع هذا الحب الذي وصفت؟ وفي أي عقيدة صليته يا هذا؟ أنا حرة ولست نديما يرضي غرورك، ويسكر جفونك. 

ثم أني لم أتعرف عليك جيدا بعد.. من تكون أيها الكائن لتحبني بين طرفة عين واستفاقتها في حين أن الحب يمشي أميالا بين ارتعاشات الأطراف تسكن وتتعبد وتستعبد.

_ أنا فتى ولدت من أكثر من مئتي عام، وانبعثت من جديد لأطوف على مرابعي التي تركتها ورائي لأرى هل من مهتم بها، وقد تركتها خضراء يانعة تنبت كل أنواع النبات، غرستها بيدي، وسقيتها بدم قلبي وعرق آلامي وعبودية نفسي بين المتناقضات التي قتلتني كمدا، ولم أجد لها حقيقة تسكت صراخ عقلي، والتي أصبحت اليوم مرابعكم  قفراء صفراء لا فيها بقول ولا عدس ولا بصل ولا نبات.. ووجدتك فيها تملكتها بجسد نحيف عارٍ وفم عطش لا يجد شربة ماء ترويه وقلب غادره دمه فلا هو ينبض ولا هو ميت.

الناس عبيد الحياة، وهي العبودية التي تجعل أيامهم مكتنفة بالذل، ولياليهم مغمورة بالدماء  والدموع.

ها قد مرت مئتا عام وأكثر على ولادتي الأولى، والآن لَم أرَ غير العبيد المستسلمين.. لقد جبت مشارق الأرض ومغاربها، وطفت في ظل الحياة ونورها، وشاهدت مواكب الأمم  والشعوب السائرة من الكهوف إلى الصروح، ولكنني لَم أرَ غير رقاب محنية تحت الأثقال  وسواعد موثوقة وركب جاثية أمام أصنام، وسمعت أودية تردد صدى نواح الأجيال والقرون.

دخلت القصور والمعاهد والهياكل ووقفت حذاء العروش والمذابح والمنابر فرأيت العامل عبدا للتاجر، والتاجر عبدا للجندي، والجندي عبدا للحاكم، والكاهن عبدا للصنم ، والصنم تراب جبلته الشياطين ونصبته فوق رابية من جماجم الأموات.

_ وما دمت عدت، ولَم ترَ شيئا تغير مما تركته، ماذا تنوي أن تفعل؟ تبقى وتتغير أم تعود إلى أراضيك التي كنت فيها وتقبع هناك وتتقبل حالك كما أنت عليه؟.

صحيح، قل لي: كيف هي حياتك الجديدة التي تسكنها الآن، وتحفل بها بعيدا عن العبودية التي تكلمت عنها؟.

هل هناك عبودية مثلها أم حرية تستنطق كلماتك، وتستجدي ريشتك لتصورها لعباد العبودية؟.

لِمَ تنظر إليّ هكذا بعينين مشعتين كالمسارج؟.

_ لا أريد شيئا، وأريد كل شيء.

_ إذن، دعني وشأني، وسر في سبيلك.

_ ما سبيلي سوى سبيلك، فأنا سائر حيث تسيرين، ورابض حيث تربضين.

_ جئت أطلب الوحدة فخلني ووحدتي.

_ أنا الوحدة نفسها فلماذا تخافيني؟

_ لست خائفة منك، إن الهواء يتلاعب بأثوابي فترتجف، لست أرتجف خوفا منك كما تظن.

_ أنت جبانة تخافينني، وخوفك مزدوج، وتحاولين إخفاءه عني.

   صحيح، ما اسمك؟

_ أَمَةُ الله ….

_ ما أكثر إماء الله.. أقصد اسمك الذي سماك به والداك، أجيبيني كما يجيب الناس، ولا تراوغي كالثعالب في فخ صائدها، ما صناعتك؟

_ أنثر الكلمات على الفضاءات البيضاء، ولي في الحياة أفكار أطرحها على الناس.

_ هذه مهنة عتيقة مهجورة لا تنفع الناس.

_  وما الذي ينفع الناس في رأيك، هل احترفت هذه الصنعة قبلي؟ أراك تعرف عنها الكثير؟

_ أمتزوجة أنتِ؟

_ لا، بل نَعم.. كنتُ، أما الآن فلا.

_ الزواج عبودية للإنسان، لقوة الاستمرار، جيد أنكِ تحررت، وتعشين خالية.

_ لكن ليست لي طاقة على الوحدة والانفراد.

_ حياة المرء بين جدران الزواج شقاء أسود مستتر وراء طلاء أبيض.

_ وأنتَ، من أنتَ؟

_ أنا رب نفسي.

_ ما اسمك؟

_ الباحث عن الحقيقة.

_ وأين ولدت؟ ومتى؟

_ في كل مكان وزمان.

_ ممن تعلمتَ الحكمة وبواطن الحياة والوجود؟

_ لست بحكيم فالحكمة صفة البشر الضعفاء.. بل أنا الحقيقة أسير فيميد الباطل تحت قدمي، وقد تعلمت الاستهزاء بالبشر من الأبالسة.. وفهمت أسرار الوجود بعد أن عاشرت ملوك الجن وجبابرة الليل.

_ وما جئت تفعل في هذه النواحي؟ وكيف تصرف أيامك ولياليك؟

_ في الصباح أحدق في الشمس، وعند الظهيرة ألعن البشر، وفي المساء أسخر بالطبيعة، وفي الليل أركع أمام نفسي وأعيدها.

_  وكيف بقيتَ حيا بعد مئتي عام؟

_ أنا والزمان والبحر لا ننام.. أما مأكلنا ومشربنا فلكِ أن تبحثي عنه في كتابات الزمان الغابر.. أنا ذاهب إلى حيث ذكرياتي.

_ أمهلني لسؤال أخر أيها الحكيم الباحث عن الحقائق، حقيقة أتعبت قلبي وقلمي، ماذا تعرف عن الحب والـجَمال؟

_ آآآآه عن الحب والـجَمال.. ثنائية الكون الجميل. 

  يحتاج الكلام عنهما وقتا طويلا، وزمنا يكتب روعتهما وسحرهما في نفس هذا الوجود.. غدا أعود لأجلك، وأكتب لكِ عنهما كتابا اجعليه دستورا لحياتك القادمة التي ربما تكوني مجال طرفيها، إلى اللقاء.. إلى اللقاء. 

ها قد عدتَ إليّ أيها النبي الذي أرسلته الطبيعة في غير زمانه ولا مكانه.

_ عدتُ إليكِ أيتها الجنية الساحرة لأجيبك عن سؤالك بالأمس، ولا أتركك تذوبين في مهاوي الجنون، وأنت تائهة وحيدة لا مؤنس ولا رفيق يبيد جنونك ومخاوفك.

  سألتني عن الحب والـجَمال.

 وأقول لكِ إن الحب في نظري نار خالدة أبدية الإشراق.. إنها نفثة الكلية التي يسمو وجودها فوق الزمان والمكان ..

_ على رسلك يا سيدي النبي كلماتك لها من التعقيد والصعوبة والفلسفة ما لا يلج داخل عقلي البليد المضبب بالجهل وأمية الفهم.. أرجوك قرب لي المعنى على حسب نضجي.

_ ما أردتُ قوله هو أن الحب حين ينفذ إلى قلبين عاشقين يعيد إليهما الوحدة الأولى، لأن كل عاشقين كانا متحدين في الله منذ الأزل ثم انفصلا حين هبطا إلى العالَم الأرضي، وسيظلان شقين ما لَم يلتقيا، الوحدة قاسية وسط الطبيعة التي يتحدث كل شيء فيها عن الحب حتى إذا عز لقاء العاشقين انقلب الإحساس بالوحدة إلى العطش، إلى الموت التي تعود معه أرواح العشاق إلى الاتحاد وتقود كل روح عاشق إلى روح معشوقة.

_ أنتَ رفيق نفسي الذي فقدته ونصفي الجميل الذي انفصلت عنه عند ما حكم عليّ بالمجيء إلى هذا العالَم، على حسب هذا التعريف، إن كل ما حدث بعدك من زهق للأرواح والموت المتعمد كان لهذا السبب؟

_ كلما تدخل الكآبة لنفس ما وتموت تكون فقدت روحها التوأم ولم تجد معشوقها أو معشوقتها. 

_  والوحدة التي أنا فيها وكثير مما يشبهونني ناتجة عن فقد روح أخرى تود الاتحاد؟

 والنصف الآخر المتحد الذي يؤلف الأسر والمجتمعات كلها أرواح عاشقة متحدة؟

_ على حسب انبعاثي إليكم ورؤيتي إن العبودية هي العنوان الطاغي لمجتمعك الذي تتحدثين عنه حتى بين ما تسميهم أُسرا ومجتمعات، انجذاب أرواح مع أرواح مغايرة لا توأم بينها أنشأت ثنائيات متناقضة متنافرة متناثرة كل في طريق وكل في جهة غير المتسمات كتوأم روح.

هذه المدينة التي تتكلمين عنها تجسد هذا العالَم الأرضي بأوشاجه وصراعاته، بقيوده المتعارضة مع قانون الطبيعة والحرية المقدسة.. المدينة التي تمثل بؤرة الشر في الكون وبقعة الظلام الملوثة لبقاء النور.. هذه المدينة الظالمة ستندثر، ولا يبقى من آثارها غير طلل بالٍ يخبر الرجال بانتحار الظلمة أمام النور ففي عالَم النور وحده يتآلف الحب.

_  وأنا أقف أمام هيكلكم، أسأل العابرين عن خفايا الحب ومزاياه.. مر أمامي كهل مهرول كاسف الوجه وقال متأوها: الحب ضعف فطري ورثناه عن الإنسان الأول.. ومر فتى قوي الجسم مفتول الساعدين، وقال : الحب عزم يلازم كياننا، ويصل حاضرنا بماضي الأجيال  ومستقبلها.. ومرت امرأة كفيفة، وقالت متنهدة: الحب سم قتال تتنفسه الأفاعي السوداء في كهوف الجحيم.. ومرت صبية موردة الوجنتين، وقالت مبتسمة: الحب كوثر تسكبه عرائس الفجر في الأرواح.. ومر رجل ذو ملابس سوداء ولحية قال عابسا: الحب جهالة عمياء تبتدئ  ببدء الشباب وتنتهي بنهايته.. ومر رجل ذو وجه صبوح، وقال فرحا: الحب معرفة علوية تنير بصائرنا فترى الأشياء كما تراها الآلهة.. ومر أعمى يتحسس الأرض بعكازه، وقال منتحبا: الحب ضباب كثيف، يكتنف النفس، ويحجب عنها رسوم الوجود، ويجعلها لا ترى سوى أشباح خيالاتها مرتعشة بين الصخور.. ومر شاب يحمل قيثارة، وقال متنغما: الحب شعاع سحري ينبثق من أعماق الذات الحساسة فترى العالَم موكبا سائرا في مروج خضراء والحياة حلما جميلا منتصبا بين اليقظة واليقظة.. ومر هرم منحني الظهر يجر قدميه، وقال مرتعشا: الحب راحة الجسم في سكينة القبر، وسلامة النفس في أعماق الأبدية.. ومر طفل ابن خمس،  وقال ضاحكا: الحب أبي، والحب أمي، ولا يعرف الحب سوى أبي وأمي.

_ أيتها الساحرة هذه قواعد هيكلي كتبتها على عمود تجربتي مع الحب، من أين حصلتِ عليها؟ دخلتِ الهيكل ومررتِ أمامي ولَم أراك، أعيديها إليّ فإنها لا تنفعك، ولستِ من أصحاب الهيكل، ولا يحق لكِ امتلاكها، محرمة في دينكِ، أليس كذلك؟ لهذا أبدا لَم تسمع أصوات من داخل هيكلنا ليعبر لكِ عن ماهية الحب. 

لكن سمعت صوتا من داخل الهيكل يقول: الحياة نصفان، نصف متجلد، ونصف ملتهب فالحب هو النصف الملتهب.. دخلت الهيكل إذ ذاك، وسجدت راكعا مبتهلا مصليا هاتفا اجعلني يا رب طعاما للهيب، اجعلني يا رب مأكلا للنار المقدس.

_ ماذا أقول لك وأنت من بني جلدتي فإن الحب الذي رسمه هيكلكم جميلة معانيه صعبة مفاهيمه مختلفة أرائه؟. 

لكن في محرابي، الحب مفهومه واحد، وواضح أخذناه دستورا لإنسانيتنا، لا تختلف عليه الآراء لا كهل ولا فتى ولا صبية ولا عمياء ولا شيخ ولا أعمى ولا مبصر.

 ==========

خاص لصحيفة قريش – لندن

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com