خالد بريش
كاتب لبناني مقيم في باريس
تطلق الشاعرة المغربية أمال هدازي دعوة إلى الغوص في الدواخل المغلقة التي تعاني من حالة موت سريري، من أجل إعادة الحياة إليها، ومن أجل إزالة الصدأ عن شبابيكها وعتباتها، لكي يستطيع الهواء النقي التنقل بسهولة بين خباياها ودخاليجها، والعبور إلى كل الزواريب والمتاهات. وذلك من خلال ديوانها الجديد « نكاية في العتمة »، الصادر في عمَّان، عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، وتهديه للفارين إلى الضوء من زحمة الدوائر والمتاهات من أجل يوم آخر، وإلى كل الذين يعانون في مجتمعاتنا بل:
إلى أصابعَ حُبْلى
بِخاطِرةٍ هاربة
إِلى وطنٍ يَلعَقُ جِراحهُ مُبْتسِمًا
إِلى الجدَّات اللواتي
فطر قلبهُنَّ لِبْلابٌ مُحْترق
فعَلقن خيْباتهم على ظهْرِ
سَحَابةٍ جَوْفاء…
تتابع الشاعرة هدازي في هذا الديوان كما في تجربتها الشعرية السابقة الحفر في التعابير والمتخيل، بحثا عن صور وتراكيب تُعبِّر عما يجول في فكرها، لتقدم للقارئ جديدا من خلال قصائد متحدية ورافضة في آن معا، مسبوكة في قوالب شعرية لذة للقارئين. وذلك ضمن مسيرة شعرية حداثية بامتياز، تسير بخطى ثابتة صورا ومعان، وتعابير حالمة هادئة وثائرة في آن معا، كحُمَم بُركان مُتفجر لا يهدأ.
مجموعة قصائد جديدة تأتي ضمن عملية بحث مستمر عن مستقر لسفينتها الشعرية وتطورها، فتمد يدها وهي تنظم حبات عقدها إلى كل بساتين الشعر لتقطف من ثمارها وأزهارها، بل إلى السماء لتدبج من أقمارها رسائل للعاشقين، طارقة أبواب الكبار من شعراء الحداثة، مستفيدة من تجاربهم ليأتي عطاؤها متأرجحا ما بين الأصالة والتجديد. مُفْسِحة مجالا بين قصائدها وفي محطات كثيرة للخاص فتحدثنا عن نفسها:
البارحَة كُنْتُ حَارِسة النفَقِ
واليوم أنا طِفْلة بِخدِّ السَّماء
آكُلُ أصابِعي وأشْرَبُ مِدادِيَ الأبْيض
… … …
افْترشْتُ حُلمًا وبعضَ فِكْرة
الطريقُ كان طويلا إليَّ
الفِكرة بعضُ ضوءٍ
والضوْءُ خسارَتي الفادِحَة…
ويحمل هذا الديوان في طياته دعوة صريحة إلى التحدي، والإصرار على الحياة، موجهة لكل إنسان يقف وسط بحار متلاطمة من المشاعر. ولكل مواطن وسط مجتمع يضغط عليه في كل الاتجاهات، محاولا تدجينه، وإخضاعه لقوانينه وقوالبه. فتصنع له الشاعرة هدازي من خلال قصائدها مجاذيفا للمقاومة، وترسم له طريقا للصمود، والإبحار نحو النجاة. وتتجلى روح الشاعرة المتحدية الثائرة في كل قصائد ديوانها، وهمسات تعابيره المُترافقة مع الأمل، والحلم في غد يكون فيه لكل شيء طعم مختلف عما ألفناه، وما تلوكه الألسن والأفواه في يومياتنا التي تتكرر مآسيها وآلامها، تكرار شروق الشمس وغروبها. ولكن ليس بنفس الطعم والصورة، إلا بالنسبة إلى الذين يعانون البلادة في الأحاسيس، والانفعالات، والتفكير، فتعلن على الملأ:
ألعنُ شَرْنقة المكان
وهَبَاءَ جَسدي الغارق في العَبَث
ألعَنُ الخُطوط، الحُروف
الغُرفَ المُظلمة
والأبْوابَ المُسَجَّاة على العَدَم
هلْ لي بأجْنِحةٍ
أكْسرُ بها قدمِي المُتحَجِّرة…؟
ويطفو على سطح ترانيم هذا الديوان عنفوان امرأة وضعت كرامتها في مقدمة عربة كيانها ووجودها، قبل قلبها ومشاعرها. امرأة لا تقبل الضيم، أو الملامة في الحب، وأثناء السباحة في عوالم الأشواق. امرأة توقف الحبيب عند أبواب دواخلها فتحدد له دوره وإطار تحركاته، وهي تعي تماما في نفس الوقت دورها:
سأكْتفي بِرَسْم ابْتسامات
على كُلِّ جُرْح
وَأزرْع بعض الصّبّار
على كل قطرة دم تنْزُف منْ داخِلي…
الوُرودُ تُصاحِبُ الشّوْك
وأنا أسامرُ الشّوْق…
وبالرغم من هذه الروح المتحدية التي طغت على جُلِّ القصائد، إلا أنها حوت دعوة هادئة أيضا إلى اللقاء بين البشر لتحقيق معاني الإنسانية التي افتقدتها المجتمعات. فتوجه الشاعرة خطابها إلى بني الإنسان، لكي يفتحوا أبواب أرواحهم ويخرجوها من أسْرها الذي فرضوه هم أنفسهم عليها بتصرفاتهم التي تتناقض مع جوهر روحهم، وتتنافى مع إنسانيتهم التي غلفوها بأغلفة طغت على الأنوار الساكنة في دواخلهم.
كمْ يَسَعُك يا ابن آدمَ
أنْ تأكُلَ بِلا شبَع
تسْرق بِلا يد
ويُشعُ الضميرُ فيك
ارْحَم الحياة
تنفسْ حًبّا
فلا يليقُ بك هذا الكوْنُ
إلا ضوء…
ويسكن الوطن في قصائد هذا الديوان، حيث تركت له الشاعرة مساحة كبيرة في قصائدها، مقدمة للقارئ بعض صوره وواقعه. إنه وطن قلق على مواطنيه وأبنائه، ومُسْخَنٌ بجراح المعاناة، طغى فيه صخبُ الحرب والدماء على إنسانية البشر. ولكنه يبتسم رغم إصابة أهله بكم كبير من الخيبات المؤلمة التي شكلت في جسده جروحا لا تندمل. وغدت المعاناة بالنسبة لمواطنيه واقعا يتقبلونه بالرغم من كونها لا تُطاق ولا تُحْتمل…!
وحتى في القصائد التي لا تتحدث فيها عن الوطن، فإنها تدخل إليه من باب العذابات والآلام التي تحيط بالمواطنين كبشر، فتتوغل في حيرة المواطن الإنسان وانفعالاته، وسط ضبابيات المجتمعات التي غدت أكثر توحشا، وتشكو خِواء روحيا. بينما يعاني أفرادها الفقر الفكري والمادي على السواء. فتغرس الشاعرة هدازي ريشتها في أعماق المعاناة، طاردة الحيرة من ألفاظها والتردد. مختارة المباشرة في التعبير. مبتعدة عن الإنشائيات متسائلة:
هلْ أتجَرَّعُ خيْبتي كدواءٍ مُرٍّ
أمْ أشْربُ الحَيَاة
أمْ ألبسُ جِلدي
وأَغْرِزُني فيهِ كتمِيمَةٍ
تحْفظني من بَلل
روحي المُتشقّقةِ ألما…؟
وتوظف الشاعرة مشاعر الرفض والتحدي التي تتدفق عبر قصائد ديوانها، للاقتراب من القارئ في عملية تماس، حتى ليُخال له أنه يجد في ثناياها نفسه، وكثيرا من معاناته. أو كثيرا مما يريد أن يقوله ويُسطره، كواحد من الذين يعانون، وقد تجرحت أصابعهم وأرواحهم، وهم محاصرون بالأحداث التي يتتابع وقعها على رؤوسهم، وكأنها حجارة تتساقط من السماء في خضم عالم لا يملكون فيه إلا الأمل، والتمسك بنقطة ضوء واهية، والمقدرة الفائقة على الصبر، المغروسة في أعماقهم فتخاطبهم:
هل سمِعْتُم صوْتي
أنتم المَارُّون هُناك
على عَتبةِ الصَّمْت
تكْتُبون رَجْفة
وتتيَمَّمون بترابِ أغْنية
أضاعَتْ حُروفَها
في جَوْفِ حِكاية
لمْ يكُنْ سارِدُها
إلا نِسْيان مُتيَّم بِذاكرة…
*****
مقالة خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة