باريس: حكاية عشق فاتنة..! فصل من رواية “مرايا الظلال”.. للكاتب المغربي عبد الغني عارف
باريس: حكاية عشق فاتنة..!
_________________________________
عبد الغني عارف
كاتب وروائي من المغرب
ها نحن في عاصمة الأنوار، نستعرض عبر شوارع المدينة وساحاتها محطات من تاريخ الحرية والانعتاق. نرسم بـِوَلـَهٍ متبادل صورة عن أمانينا التي أردنا أن تزهر في المستقبل. وجودها معي في باريس كان كافيا ليخفف عني دهشة اللقاء بهذه المدينة المثيرة الأنوار. هذه المدينة الساحرة، كأنها ما وجدت سوى لأداء رسالتين اثنتين: الثورة والعشق، لذلك تراها قبلة للثوار والعشاق. يأتونها من كل فج عميق. يبحثون في تفاصيلها عما يعوضهم عن سنوات الحرمان والحصار والفقدان…
فاجأتنا زخات مطر خفيف.
ما أجمل لحظات المطر في باريس.!. إنه مطلق الكمال أن تحتضن باريس حب عاشقين متيمين بالهوى، في يوم ماطر!
قالت لي:
– « أنستعمل واقية المطر؟. »
أجبتها :
– دعينا نستحم بهذا الألق الرائع ونثمل من تسكعنا بين معالم هذه المدينة التي احتضنت نداءات الحرية ذات فجر إنساني جميل. دعينا ننتقم، في هذه المدينة البهية، من كل قرون الضياع التي كبلت فينا فيض الوجدان والمشاعر، لنجعل منها جسورا نحو أحلامنا التي تحاصرها قبائل الوأد.
كنت أتصور أن كل قطرة من قطرات المطر تحمل معها إشراقة من تاريخ الأنوار.
باريس الصبية المنتشية بأعراس البهاء.
زخات المطر تتراقص مشكلة لوحات مغرية بالتأمل. قلت لها:
– أنظري ما أجملها تلك اللوحات !
ابتسمتْ فازداد وجهها، تحت وابل المطر، إشراقا وعذوبة.
شددت على يدها عربون اندهاش آسر بهذه اللحظة الاستثنائية التي نوقع تفاصيلها عبر شوارع باريس. أردت أن أشعرها بأننا نصنع من غربتنا الجميلة في هذه المدينة كأس صبابة يرتوي بها عشقنا الأبدي. تخيلتُ أن أول قبلة عشق في الكون انبثقت في ساحة من ساحات هذه المدينة.
استجمع عطر هذه المدينة لأعيد كتابة تاريخ كل العشاق الذين شيدوا من رموش العيون ممالك الفرح وكتبوا بمداد الصبوة حماقاتهم الخالدة.
أعانقها فننطلق عبر كل الأزقة لنجعل من أضواء المدينة منتزها لقصائدنا المشتركة. نقرأ في نهر السين ليالي سهاد ” أراغون ” وهو يختزل العالم كله في عيون ” إلزا “. نبحث في أرصفة ”
الشانزليزيه” عما تبقى من حكايات العشاق القديمة لنبعث فيها جذوة الحياة من جديد. نشارك الباحثين عن شموس الفرح تحت “برج إيفيل” مغامراتهم المفتوحة على كل الاحتمالات. نتيه في الشوارع المضيئة عسى أن نزيل عن أجسادنا ما علق بها من ركام الضجر والطقوس البليدة.
أتذكر صديقا قال لي يوما: لا يمكنك أن تزور باريس بدون بطاقة حب. في باريس لا خيار لك: إما أن تكون عاشقا أو معشوقا أو هما معا. باريس مدينة لا تحتمل الحياد في العواطف، مدينة ترفض النفاق في التعبير عن المشاعر. مدينة تؤرخ لأسطورة العطاء المتبادل والمتجدد باستمرار وتهزم برودة الطقس باشتعال الأشواق. ألم يطلق عليها شاعرها الصعلوك العظيم “
بودلير”: “الجحيم المشتهى”؟. ألم يخاطبها عاشقا متيما بقوله:
أحبك.. يا جميلتي.. يا فاتنتي…
أحب قذائفك.. طعناتك.. انتصاراتك.. أعيادك
ضواحيك الحزينة
فنادقك الباذخة
حدائقك الحبلى بأنفاس جذابة
أديرتك التي تعزف ترانيم الصلوات
خسارات الطفولة
شيخوختك المخبولة…
تناولنا وجبة خفيفة بأحد تلك المطاعم الرومانسية المنتشرة في ساحة إيطاليا. عرجنا على شارع Les Gobelins. امتطينا المترو في اتجاه محطة راسين. فتحتْ مديحة حقيبتها اليدوية وأخرجت منها كتابا. إنها رواية “الحرب في بر مصر” للروائي المصري “يوسف القعيد”. أثارتني صورة غلاف الرواية. بدأتُ أتأملها. بدا لي فيها خليط من الكائنات يتقدمها حمل ورأس طير، وإلى جانبهما أوجه نساء ورأسان مدفونان تحت خوذتين، ويدان تحمل إحداهما سكينا بينما الثانية تمسك ببندقية قديمة. ذكرتني الصورة بحروب القبائل التي تركناها هناك. همستُ لنفسي: « ما لي وهذه الحروب التي تقتفي أثري وأنا في باريس !؟». رفعتْ مديحة عينيها عن الكتاب وهي تتأمل حدائق الفرح النابت بين ملامح وجهي. سألتني:
-ألهذا الحد تغريك باريس؟
أجبتها:
– وهل لي أن أشبع من باريس وأنت المقيمة فيها. !
أستعرضُ عبر نافذة المترو المحطات، واحدة تلو الأخرى. لكل محطة هندسة خاصة ورونق جمالي متميز. في كل واحدة منها تقابل مئات الوجوه من مختلف الأجناس والألوان والانتماءات. شيء واحد يجمع بينها جميعا: الانتماء لفضاء الحرية التي تقطر من عيون باريس الجميلة.
غادرنا محطة المترو متعانقين. نتضاحك ونحن نتراقص مترنحين بخطواتنا في اتجاه جامعة السوربون. اجتزنا شارع مسيو لوبرانس. وقفنا أمام محل لبيع الكتب القديمة. قرأنا بعض العناوين المعروضة على واجهة المحل. في الشارع نفسه أثار انتباهنا عنوان عريض لمطعم كتب على واجهته:Spécialités Marocaines-Mechoui-Couscous- Tajine .
ابتسمت وأنا أقول لها:
– حتى باريس لم تسلم من طاجيننا. هم يغزوننا بالتكنولوجيا والعلوم، ونحن نغزوهم بالكسكس والمشوي.
– أجابتني ساخرة:
– المهم ألا نبقى مكتوفي الأيدي …!
ضحكنا معا. تابعنا السير إلى أن وصلنا إلى شارع “Saint-Michel”. وقفنا أمام وراقة “GibertJoseph”. اقتنيت مذكرة وأقلاما. كنا نسير نحو ساحة السوربون، حين سألتني:
– ألم تتعب بعد ؟
أجبتها وأنا أحتضنها:
– وهل يتعب من هو في حضرة ملاك مثلك؟
هاهو المبنى الضخم لجامعة السوربون ينتصب أمامنا. اجتزنا الممرات الداخلية للجامعة إلى أن وجدنا أنفسنا أمام لوحة معدنية مكتوب عليها:
ÉTUDES ARABES ET HÉBRAIQUES Esc. I – Niveau H
تسلقنا درجات السلم، فانفتح أمامنا بهو فسيح.
رفعتُ رأسي لأتأمل سقفه المنقوش بلوحات جميلة.
بدت لي السماء زرقاء. أقرأ فيها ما أحدث به نفسي: « أجمل ما في شواطئ البحار أنها قادرة،
بين كل مد وجزر، على احتضان نداء الموج المندثر بين حبات الرمل» .
أسراب النوارس تعاود رقصاتها قبل أن تبتعد ويلتهمها الأفق.
تختفي وكأنها تجر وراءها أذيال ما تبقى من أنفاس الزمن” .
– من رواية ” مرايا الظلال “
____________________________
فصل من رواية خاص بصحيفة قريش/ ملحق ثقافات وآداب- لندن
عذراً التعليقات مغلقة