خيط رفيع ما بين الهذيان والبوح
في ديوان الشاعرة المغربية آسيا رياحي
نقد: خالد بريش
كاتب لبناني مقيم في باريس
« هذيان عاشقة »
كما أن الهذيان لا ضوابط ولا قواعد له، وأنه يصدر عن صاحبه بطريقة تلقائية تعبيرا عن مكنوناته، أتى ديوان الشاعرة المغربية آسيا رياحي الأخير « هذيان عاشقة »، تلقائيا وكأنه تداع حر من حيث الأسلوب، ومن حيث عدم انضباط المشاعر التي تفيض من عباراته بلا حدود. فلا تحصر أفكاره عناوين، ولا تشعر بانتهاء الفكرة، أو الصورة التي حملتها قصائده. إذ تنتقل الشاعرة رياحي عبر مكنونات هذيانها برشاقة لغوية، وأناقة منتقاة، فينتقل معها القارئ متفاعلا مع ما يقرأ، فتحدث إيقاعات تفعيلاتها نوعا من الهيمنة التي تتسرب إليه شيئا فشيئا، وبهدوء، وتسري مُشعْشِعَة في دواخله.
إنه ديوان في قصيدة واحدة، ولكن في محطات من الممكن أن نطلق عليها اسما آخر غير « هذيان »، كاعترافات، أو تمتمات، أو بوح. ومن الممكن أن نقول عن هذا الديوان بأنه ملحمة عِشْق، لكونه يُحْصي معظم الحالات والتناقضات التي يمر بها العاشق من تردد، وإقدام، وقرب، وبعد، وأرق، وألق، وسعادة، وحزن، وخوف، ورفض، وقبول، الخ… فالديوان عبارة عن توصيف ورصد لكل ذلك، ويحكي واقع كل العاشقين، ومعاشهم، وحالاتهم النفسية، وانفعالاتهم الإنسانية.
ونستطيع اعتبار قصائد هذا الديوان حالة وجدانية صادقة، وامتدادا للمجموعات الشعرية السابقة التي أصدرتها الشاعرة رياحي من قبل، وتسير في نفس الاتجاه. والمشحونة بتفعيلات موسيقى شاعرية، تتناسق من حيث إيقاعها ووقعها مع طبيعة النصوص التي تمسك بتلابيب القارئ، فلا يستطيع أن يتفلت منها. نصوص بالرغم من صخبها أحيانا، إلا أنها لا تترك الحدث، أو الحالة التي تتناولها وصفا وتعبيرا أن تأخذ زمام المبادرة، وتسرق من النص بريقه وأناقته وجمالياته.
وكما أن الحب لا يستأذن في طرق أبواب القلوب، فإن عبارات الديوان أتت هادئة، مُخْملية الألفاظ والتعابير، تتسلل إلى حيث أرادت لها الشاعرة. ديوان عبارة عن رسائل غير مُشفرة، من امرأة أضْناها العشق، فباحت بخبايا روحها في لغة هادئة، واضحة، وصارمة، لا تقبل التأويل، ولا تخلو من بعض الحِكم التي تعضد فكرتها، أو تضيف إلى القصائد بعدا إنسانيا، وفلسفيا، كما في قولها:
فالسيف
لا جدوى من بريقه
إن هو في غمده حلَّ
والدهر يفنى قبل القطاف
إن هو للرحيق ملَّ
إنها قصائد تصلح لكل عاشق، لكي يهديها مع زهوره لمن يحب في مناسبات اللقاء. وإذا كان العشاق في الواقع ينقادون بواسطة مشاعرهم، وعواطفهم، ويبتعدون عن كل ما هو منطقي، لكون العشق يغمر الكيان، وكل تفاصيله، فيصبح العاشق أسيرا لمشاعره وللآخر في آن معا. إلا أن بطلة قصائد الشاعرة آسيا رياحي لا تنقاد لقطار المشاعر، وتبقى حاضرة الذهن، متيقظة، تجيد إدارة الحوار، وترتيب الأوراق، والأخذ والرد، والحديث مع سالب اللب، ومالك القلب…
قال: أحبيني
بلا لوم
بلا عتاب…
قلت: وهل تمطر السماء
بلا غيم
بلا سحاب…؟
إنها حبيبة تتعرض لكل الحالات النفسية التي يمر بها العشاق، وإلى المواقف التي تمر بهم. تُعلل، تُجادل، تُناقش، وتحكي لنا بأية ألفاظ يناديها حبيبها « حبيبتي… أميرتي… »، وما تحدثه مناداته لها من زلزلة في كيانها وأعماقها. مُفْسحة مكانا لكي يسكن الخاص بين سطور الديوان، بشكل لا يخفى. ومع ذلك يبقى موجها بشكل عام لكل الأحبة قاموسا ومرجعا. بل من الممكن أيضا أن تكون قصائده رسائل خاصة، وخاصة جدا، ولكنها تعبر في نفس الوقت عن مواقف يمر بها كل محب وهو في طريقه إلى سُكْنى قلب الحبيب. خصوصا عندما تكون سالبة، أو تؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، وما لا ينتظره الأحبة ممن يحبون…
مُثقلة برزْمة خيباتي
سأركن إلى زاويتي بيتي
أرشُّ عروضه بشذى حسراتي
وأهش على ضربه بكذبة بسماتي
ثم أزحف في غياهب الحشو
أسامر أحلام النعامات
كثيرة هي الأسئلة التي تطرحها الشاعرة رياحي في ديوانها، وكثيرة أيضا هي الإجابات على أسئلة تتوارد على خواطر العشاق، والمحطات التي مرّ بها مُعْظمنا كبشر، وجلس على كراسيها… وعلى الرغم من الكبرياء الذي يسيطر على العاشق أحيانا، إلا أن بطلة قصائد شاعرتنا، تعترف لحبيبها بأشياء كثيرة، وقلة هم الأحبة الذين يعترفون بعجزهم أمام الحب، ويبوحون بمشاعر العشق. ويأتي اعترافها بخيباتها، للتأكيد على حالة إنسانية، ولكن دون خضوع أو تنازل أمام الحبيب قيد أنملة…! إنها تقف أمامه وجها لوجه، تخاطبه دون دونية، أو شعور بالعجز أمامه.
انزل من على صهوة غِيِّك
تطهَّر من صبوات رِجْفِك
وأذّنْ للرحيل
وتعرض الشاعرة رياحي في قصائدها بالإضافة إلى الحالات التي يمر بها العاشق في رحلة عشقه وولهه، وتداخله في الآخر وهيامه، ولحظات الصخب، والفراق، والعوْد، والوعود، والتساؤلات، والأجوبة. متخذة مسافة معها، ومعللة بمنطقية، وخصوصا لحظات الوحدة القاتلة، بعيدا عن الحبيب، أو تلك المشاعر التي تعتري الأحبة، من كون لا أحد يشعر بمدى حبهم:
ويظل العشق لغة مُشفرَّة
لا يفكها سواد مداد
ولا يترجمها بثُّ وداد
ولا حتى أريج وردة دامية…
يفي بحلول المراد
العشق سلطنة
بتلاوين الدهشات
تتجاوز جَلوَةَ الفؤاد
======================
مقالة خاصة لصحيفة قريش -ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة