أمي نانا .. تعود بجرة عسل و سمن.. قصة من المغرب

4 فبراير 2019
أمي نانا .. تعود بجرة عسل و سمن.. قصة من المغرب

قصة قصيرة

                                              أمي نانا … تعود بجرة عسل و سمن

رشيد سكري

قاص من المغرب


في دفتر الرسم ترسمين وردة…

خذي الألوان الزاهية . لا . أقصد الألوان الباردة . حاولي أن تبعثري دفقات شعورك على هذا البياض . لا تخجلي ، فالإبداع قطعة من دهشة ، يليها انتحار .

كانت صغيرتي الهاوية و العاشقة لرعشة الوجود ، تجلس أمامي . وتملأ مَرْسمها بألوان الطيف .أحمر . أزرق . أصفر . وأخضر.

أطالت بُرعم الوردة حتى انتصف الورقة . لا . هذا طويل جدا … مسحت الإبداع ، وأعادت الكرَّةَ من جديد. فإلى سلة المهملات ، إذن ، بالأوراق المعجونة تعج . بالمحاولات الفاشلة تطفح .

حذاري من الإطار ! فللصورة و الرسم إطار و دعامة ؛ دعامتك صور شاردة هاربة تصارع الضوء ، تنفلت من عِقال و تغوص في عتْمة . شجرة في ضوء أو ضوء في شجرة. أخذت عزيزتي الأقلام كلها ، قربت رؤوسها من البياض . رسمت جذع شجرة ، أصلها ثابت ، وفي السماء فرعها ، بها المقام يعلو و يعلو ….

نظرت إلي وقالت :

ـ صفصافة ، إذن . لا. كلبتوس … تحط فوقها أغربة ، تبني أعشاشها القديمة ، تعلمنا أبجديات الكلام و الدفن.

ـ متى ستزهر الصفصافة؟

أجبتها : عندما تعود أمي نانا بجرة عسل و سمن .

تطل نانا من الربوة ، تقطع أحواض النعناع والبتولة الطرية ، مختالة في قميصها الأرجواني المشدود على خاصرتها ؛ أقدامها تغوص و تغوص في وحل طيني . عيونها خفيضة . تسرع . وتسرع.

قلت لها :

ـ اُرسمي لحاء الصفصافة . يقيها من ندى الأنداء .

وضعت الأقلام جانبا ، أخذت اللبد وغطت الساق بطبقات من لحاء ملون . وقالت : الآن … سيلهو بيل بفروه الأبيض الناصع كالثلج ، سيخمش بأظافره … هذا اللحاء .

أكيد ستسمع له عرينا و عواءا وصهيلا ، أغان كلها تعرفني.

على الورق الأبيض وضعت الألوان ، خربشت زرقة السماء ؛ خطوطا مائلة و أخرى أفقية. مع إشراقة أمل ، وفي مهب الريح تسافر غيمة يتيمة … شمسٌ صفراءُ تطل خجولة ، شمس في يوم غائم .

آه ! لم أرسم لها تلك الابتسامة المدموغة في تاريخ الفن الإنساني ، تشبه بسْمة ، تشبه قفْزة تقفز ، و تقفز ؛ إنها الموناليزا . أخذت اللون الأصفر ودَرَجتِ الفم بعناية .

الفم مَزْموم ، لا يتكلم ، لا يبتسم ، ينحي … كالبَرَد تطل منه أسنانٌ بيضاءُ … لعاب يسيل ويسيل … قُطيرات رُضابية لطَّخت صفاء الورقة و زرقة السماء.

يدَّائية هذه الفتاة ، صَبَويّة ، تعبث بأناملها فوق القماش … تنشر الصباغة على اليمين وعلى اليسار. فوق الصفصافة ، لازالت الشمس منتصبة و مبتسمة . حط فوقها سرب من القطا ، نشر أجنحته البنية الهلالية ؛ كي يغازل بها أشعة الشمس.

من على الصفصافة أرسلت القَطَوَاتُ ألحانا عذبة في سمفونية واحدة ، في جدب واحد ، في نفس أوحد.

لونت الحروف الموسيقية المتماوجة في سدى من الخطوط ، تشبه الدعامة .

قالت : الحرف الأول فـــــــــَــــــــــــا …

اِهتز السَّدَى كأوتار الرَّباب .

على إيقاع رقصات أسراب القطا ، تتبادل الأمكنة و الأزمنة .

قلت لها: لم تعجبني رقصة تراسل الأمكنة هذه .

فالقطا طائر هجير، لا يرسو إلا بأرض بها ماءٌ و عشبٌ و هواءٌ جديد .

جذور هذه الصفصافة ، إذن ، لن تتحمل أسراب القطا المهاجرة.

قالت : الحرف الثاني سـِـــــــــــــــــي …

إذا ما هاجرت أسراب القطا ؛

يتغير لون السماء … يصير أرجوانيا.

تتزاحم في الضوء، وفي السراب تنشر أجنحتها البنية . وتعود من شموخ و سُموق الأعالي ؛ لتقتات من فتات أطعمة فاسدة ، أهملتها أمي نانا في صحونها البالية.

اٌرسمي لها صحونا قشيبة … واملئي لها كل الأقداح بالماء الزلال .

وضعيها في الظل الظليل… تتنعَّم فيْـئا.

قالت : الحرف الثالث ـــــــــــــــلا…

عندما تعود أمي نانا ، ذات العيون الخفيضة ، تكون الساقية قد يبِسَتْ من الماء . وبعض شجيرات الدفلى المربوطة جنب الدار ، قد أوشكت على الكساد . تدلت منها الأوراق الصفراء و السيقان الخاوية ؛ فأصبحت مشتلا لمختلِف ألوان الحشرات ، التي تعشق اليُبْسَ و اليَبَابَ. تقلب أمي نانا وجهها الشاحب في وشاح لهُدْب النجوم ، تتوضأ بِعَبير ريَّاها ، وتقتفي أثر أسراب القطا المهاجرة ، تاركة لها رسائلَ مشفَّرة لا تفهمها إلا أمي نانا .

أمي نانا تقطع الأحراش في مد البصر.

خياشيمها ذات المغاور الكُحْلية سكنت فيها ريحٌ شرقية مالحة . فوق الأثافي الخامدة و المعفرة رمادا ، وضعت أمي نانا وعاءا نحاسيا تملأُ نصفه ماءا ، ونصف الآخر تمزجه بحليب شاة وحيدة القرن . تترك الوعاء يتوشَّح صحنا سماويّا به إحدى عشْرة نجمة قطبية ، عند مطالع الضحى تخبوا أضواؤها.

قلت : اُرسمي أمي نانا تتفقد تميمتها النحاسية ، المعلقة على صدر الصفصافة .

قلت : اُرسمي شمسا تظلل الشموس .

قالت وردتي: سأرسم في دفتر الرسم وردة . و سأرسم قَطَيَات عائدة إلى وُكُنَاتها ، وهي تحمل جِرارا من العسل والسمن

قصة خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب. -لندن

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com