سيجارة ميدوسا – قصة الكاتب المغربي عبدالجليل ولد حموية

17 مارس 2019
سيجارة ميدوسا – قصة الكاتب المغربي عبدالجليل ولد حموية

«سيجارة ميدوسا»

عبد الجليل ولد حموية 

كاتب من المغرب

شارد الذهن على كرسي في المقهى، أحملق في الأرض تارة، وفي مباراة كرة القدم تارة أخرى، أحاول الهروب من أوراق وضعتها الصدفة على الطاولة. أعود بين الفينة والأخرى أدقق النظر في جملة فلسفية وأطمئن: «النص صعب المنال، لست نيتشه كي أقرأه». أصنع كذبة واصدقها. أظلِم المقهى كي أعتذر للنص بسبب الإنارة، أطلب من النادل طلبا لا أريده، ألقي التحية على زبون نسيت اسمه، بل لا أعرفه، أعيد ترتيب شعري بيدي، والنص الفلسفي لازال شامخا أمامي، فاتحا مثنه على مصراعيه، يقول لي: «تقدم للأمام». اخطف نظرة نحو الشارع، مدينة تلد الجمال رغم البؤس، أعطف لحال العازب الذي يعيشني، كم من الوقت سيستمر الرضى بالنوم ورأسي على وسادة؟ متى تحن أفكاري لتوسد الحليب؟ متى استبدل هذه النصوص بتلك؟ 

في الدقيقة الثلاثين من المباراة، رفعت رأسي لأتحقق من سبب صراخ المعلق الغبي، لم يكن هدفا، تسلل واضح. قبل أن أرجع عيني إلى متاهاتها، تسلل مشهد غريب، ربما هو سبب صراخ المعلق، إلى مجال رؤيتي: فتاة تدخن في ركن المقهى، ليس القصد تدخين فتاة (كي لا تمقتني النسوانيات)، لكن طريقة تديخينها غريبة. تضم السيجارة بشبق بين شفتيها البنيتين، تبللها برضابها حتى تشتد الرغبة فيها، فتسحب منها حتى تتقعر وجنتيها، تغتصبها بلطف، وتنفث الدخان عاليا بقسوة أنثى مهجورة، يعْلق الدخان داخل شعرها المجعد ليشكل لوحة سريالية جميلة، خالقها تجاوز جمالية لوحات سالفادور دالي بسنوات ضوئية، أدقق النظر في المشهد جيدا، تشبه ميدوسا، شعرها يتطاير كالثعابين، نظرتها شمس ملتهبة، قسمات وجهها قاسية كحفرية قيمة، فمها صغير يومض بياضا كزهرة بين الأشواك، أنفها سيف صغير دق باحترافية داخل ملامحها، يشبه خنجرا يأثث قائد أمازيغي به شجاعته. متناهية الجمال، كل لحظة تبدو أجمل من سابقتها، جمالها يتضاعف كالبكتيريا، ترى أين سيصل لو استمريت في التجسس عليها؟ ستغدو نبيا وسيما ربما؟ أو حورية بحر؟ أو حبيبتي. ربما تكون فتاة عادية، مدمنة تدخين، بشرتها سمراء بعض الشيء، لكنني أحببتها، أحببتها من أول «نطرة» (سحبة). عقلتها وتوكلت، فانطلقت المطاردة الروتينية…

أحمل كأس الماء عاليا، تقرب سيجارتها من فمها، أشاهدها من خلف الماء، تشاهدني من خلف الدخان، أغرقها داحل بحري، فأتلاشى في دخانها قبل أن تلفظ أنفاسها. أعض على شفتي، ألملمني، فتقبل السيجارة لتعيد تدميري. أقرر رفع التحدي، أطلب سيجارة من النادل، تطفئ سيجارتها وتشعل أخرى لترفع الايقاع، أسحبها عميقا مع الدخان إلى غياهبي، أعرف أن قوة جسدي النحيل أنه شاسع كثقب أسود قادر على التهامها، لكنها تنفثني كالريح لأحلق عاليا في جمالها. فتنتهي سيجارتي قبل أن أحصل على هدف شرفي. أحمل جريدة وأقرأ، القراءة سلاح مدمر، رسائل ذكر عنكبوت لأنثاه: «لن يمنحك آخر نصف ما منحتك من سمي» تحمل جريدة وتقرأ كأنها تهمس في أذني: «برج الحوت: سيحاول أحدهم التقرب منك». أخر خاضعا مرة أخرى، أقذف شاربي كنبال نحوها، تأمر ثعابين شعرها بأكلها، فأقرر الاستسلام أخيرا. لكنها سادية تقرر قتلي حتى اخر نقطة شك، تقذف غمزة من خلف النادل، أشعر أن روحي تخرج لتسكن داخل جسدها، أنطق شهادة الحب والخضوع: «أشهد أن ميدوسا استعبدتني». 

دفعت حساب النادل وخرجت إلى الشمس لأداوي جراح هزيمتي أمامها. سرحت بخيالي أحاول تجاوز الأزمة، امن المعقول أن أقع في حب فتاة لم أتبادل واياها سوى الرموز؟ كنت ولا زلت ضعيفا أمام النساء، ربما أخبرها صديقي نقطة ضعفي. 

 يضربني شخص بكتفه من الخلف كمجداف قارب النجاة، تنتشلني الضربة من متاهة الأسئلة، ألتفت فأجدها بكامل أنوثتها تنتظرني كي أحدثها. ألقيت السلام، ردت السلام وأردفت جملا أخرى، لعنت اخر نوع عرفته من الحب، وهمست لآخري: «يا ليتها لم تتكلم، كي لا أراها…بشعة». هجرت الشمس وكفرت بميدوسا، وعدت أدراجي لأعتنق مرة أخرى دين الفلسفة. 


=================

خاص لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب -لندن

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com