أحمد ضياء يكتب للوطن الجريح ولكل الشهداء
والموتى والمغيبين لكي يكون صوتهم حاضراً بيننا…
رؤية نقدية : خالد بريش
منذ بداية ثمانينات القرن الماضي والعراق غارق في حروب تتوالى فصولها، مُحْدثة بحار دماءٍ تعجز الكلمات عن وصفها. ولقد شكلت تلك الحروب ومآسيها وويلاتها كغيرها من الحروب عبر التاريخ، مصدر إلهام لكثير من المبدعين كتابا وشعراء، ما زالت أحْبارُهم تسيل دون أن تعرف نضوبا.
وفي هذا السياق، يأتي ديوان الشاعر العراقي أحمد ضياء « الحرب دموع خشنة »، الصادر عن دار الانتشار العربي في بيروت. والذي يؤكد من خلاله انتماءه لمدرسة الشعر العراقية الحداثية بامتياز. ديوان يحمل في طياته هموم العراقيين. بل هموم كل أبناء العروبة الذين كست سماءهم غيوم البارود، واختلطت أغانيهم بصراخ الثكالى ونحيبهن، فأمطرت المآقي كما قال الشاعر يوما: لؤلؤًا وعضَّت على العِنّاب بالبَرَدِ… ودفنت فرحها وربما حُلمها.
تنتمي قصائد هذا الديوان إلى قصيدة النثر الغارقة في الرمزية، المزدانة بعبثية يفرضها واقع الحرب وأهوالها. مع تركيز على صور شعرية تُخلّع مصاريع دواخل القارئ، فلا تتركه يرتاح لبرهة، بل تتابعه لتؤلمة. إنه شعر مكتوب بالألم والدم واللحم المتناثر في كل اتجاه، كخرائط أوطاننا التي مزقتها الحروب، والطائفية، والمذهبية. وتحول سياسيوها إلى قبيلة من مصاصي الدماء… فنهبوا خيرات الأوطان. وتاجروا بدماء الأبرياء. ولم يبقوا للمواطن البائس إلا بندقية قديمة، أو متفجرة، ليقتل فيها أخاه هابيل. ولكن دون أن يُشْغله موضوع دفنه، هذا إن بقي منه شيءٌ يُدْفن…!
لا تغمض عيني لئلا أشاهد الصرخات
تنبعث من جفون القذيفة
فقيرة هذه الحرب تسلفن
ذاتها في لقطة مصور مبتدئ
فزَزْتُ ذات مرةٍ على رصاص الحقائق
وجدته حارسا يقظا يوغل بي
ناحتا وجه البشر في صخرة صدري…
* * *
قصائد تتجاوز وُرَيْقات وحدود الديوان، لأن كل فقرة أو حركة تحمل قصة، وتحكي مأساة، تحتاج لمجلد قائم بذاته. تراها العيون على حقيقتها، فتتابع تفاصيلها. وتسمع الآذان أصداء وقع أقدام الجنود، وأزيز رصاص بنادقهم، وعويل ونواح وندب الثكالى، وكل تقاليد واحتفائيات الموت، والفجيعة. وتتنشق الأنوف رائحة البارود والدم. ويتهالك الجسد، الذي قد يصبح موئلا للرصاص. « كلما شعر الرصاص بالبرد التحف جسدي »… وأقسى ما في الحرب هو الخوف الذي يكون في أقصاه، ويكون الإمساك بخيوط الحياة وأهدابها أوهى من نسيج العنكبوت، وهو ما يتبقى للمحارب:
تهرش أصابعي معطف الحرب
تحكه كل فترة
حتى لا يتسنى له التوقف
في مسالك نهاياتنا
* * *
لا ينتظر الشاعر أحمد ضياء على القارئ طويلا لكي يدخل إلى أعماق وتفاصيل ديوانه، والأفكار التي حواها، ويجول في عباراته، وترانيم تفعيلاته. لأنه وكما أن الحرب كثيرا ما تندلع فجأة، ويدخلها كثيرون مرغمين، وتُفْرض عليهم… فإنه كذلك الحال مع هذا الديوان، حيث يدخل القارئ مباشرة في عالمه، غارقا في سطوره، مستشعرا ما ظهر وما بطن في همسات حروفه، دون أن يترك له الشاعر مجالا للهرب. فهو أمام فظائع وأهوال، سمع عنها كثيرا، ولكن الشاعر عاشها بكل أهوالها ومآسيها. وقد عُبدت روحه بإسفلتها، وتمرغ جسده بأرصفتها، واختلط بقطع اللحم المتناثرة المعمَّدة بالدماء…
تنام الرصاصة مبلطةٌ رأسي بمعجون البارود
باتت البطانيات كيسا تستعمل لحمل الجثث…
في خندق الحرب النساجون للدخان
تترقرق في عيونهم التجاعيد
* * *
يكتب الشاعر أحمد ضياء من خلال قصائده هذه للتاريخ، قبل أن يكتبه من دمروا الوطن، وتستروا بلباس الوطنية. يكتب لنا جميعا لكي لا ننسى أو نتغاضى. فيوقظ البعض، ويفجر بركان الثورة في آخرين. يكتب لنا نحن الذين عشنا آلام العراق، ومآسي الحرب الظالمة التي دمرته، والموت الفج لأبنائه من بعيد البعيد. يكتب إلى كل الشهداء، والموتى، والمغيبين، والمفقودين… لكي يكون صوتهم حاضرا، ولا تذهب دماؤهم هدرا. وخصوصا الذين ماتوا تحت التعذيب في سجون المحتل الأمريكي، أو خُلفائه ممن يدعون الوطنية. يكتب بالنيابة عن المهمشين، وكل الثوريين الذي لم تتضخم الأنا في دواخلهم. فاضحًا أولئك الذين يسكن الوطن جيوبهم وحساباتهم المصرفية، وينامون منتعلين أحذيتهم في كل وقت استعدادا للهرب… يكتب للثوريين الذين يعضون على جراحهم بصبر وألم، وتعتصر الحسرات قلوبهم، وينتظرون ساعة الطوفان القادم لا محالة…
« القذيفة التي وجهها الأمريكي من الدبابة غرضها تجليد صراخنا في الغرفة.
شرائط الأفلام المتعلقة بالتعذيب، صفارة تدليس تفر منها ذاكرة، تحبل بالشعوب »…
وينقل لنا في ديوانه هذا تفاصيل الحرب، وكأنها لوحة أمامه. أو يطل عليها من نافذة غرفته، ويحملها إلى القارئ منظرا، ومشهدا، وصورة، ورصاصة، وقذيفة، وسيارة تنفجر… لأنه كان هناك؛ تحت الجسر، في المستشفى، في السجن، في الدبابة، بل تحت مجنزراتها لحما مُلتصِقا بالتراب… طارحا كمًا من الأسئلة المؤلمة ألم الحرب نفسها، وتمزق الأجساد بفعل القذائف والشظايا…
مصارعون،
نسعى لهزم الجوع العالق في أكفاننا
ماذا يقول الجسد أمام لغة الحرائق…؟
* * *
يستخدم الشاعر أسلوب الراوي، والخطاب المباشر في آن معا. وهو بذلك يقترب من القارئ، وكأنه أمامه يخاطبه مباشرة، دون حواجز زمنية، أو جغرافية. فيتداخل العراق في أعماقه فيخرج من حيز الصور الشعرية، إلى حيز الواقع، والمكان، إلى عالم الإنسان في المطلق. واصفًا موت الإنسان بيد أخيه الإنسان والذي يعني موتا للإنسانية. إنها الحرب، والعبث، والمأساة، والموت المجاني. موت الإنسان الذي كبُر مع الأحلام… لتأتي رصاصة لا تساوي عدة ملاليم، فتقضي عليه. أطلقها جاهل في مفاهيم الإنسانية، لا يملك حلما، ولا يعرف شيئا سوى القتل، فيدفن بالتالي حلم أخيه الإنسان، كنهاية فيلم سينمائي THE END… FIN… النهاية…!
الحرب حذاء القتلة
خرمش بيدك تلافيق وجهي
لا أملك غير طلقات رعناء عفنة
زنجار الأجسام بأظافرك يتمطى
انتفهم بالركض بالخوف المتبدي من ذراعي
لا سبيل للهروب إلا بخياطة هذا النهر مع أوصال الموتى…
* * *
قصائد مشغولة بلغة قوية تُجَرِّح، وتعْتصر الأرواح، بسبب طبيعة الموضوع الذي تتناوله وهو الحرب ولعناتها، وكل ما حوت من موت، وعبث، ودمار، ودماء، ولحم يتشظى كهتن المطر… تقوم المفردات والتعابير بدور آخر غير التوصيف، ونقل المشاهد المؤلمة، وإيقاد شموع في دواخل القارئ لكي يرى، ويفكر بشكل أفضل، وسط العتمات. فيتحقق أحد أهم أدوار الشعر في حياة الإنسان. وإلا ما الشعر إن لم يُنِرْ دربًا، ويحرض ويدفع بالقارئ ليكون في مواجهة الواقع المفروض عليه ورفضه وقرع أبواب المستقبل…؟! يقول في قصيدته « من بطن نظارتي »:
كلما شاهدت قتيلا، ألعن…
كلما مشطت الرصاصات صدغ أبي
كلما زحفت فوق ذراعي [ألعن]…
كلما تنثرني عطور الدماء المرشوشة
كلما أصفق للملتحين خِلسة
كلما أجبر على العيش في بلد لا يعرف إلا الموت ألعن…
* * *
وتكمن خصوصية قصائد هذا الديوان في أنها تشكل حوارا مسرحيا متكامل الحبكة، قائما بذاته. وترسم تعابيرها في متخيل القارئ ومشاعره المشاهد بوضوح. ويشكل البكاء، والأنين، والعويل، خلفية للديكور المظلم والمؤلم. فتصل بالتالي رسالة التحريض ضد هذه الحرب البائسة، وكل الحروب الأخرى واللاعبين في ساحاتها. حوارا مسرحيا يُفْصح عن الأشياء كما هي بفجاجتها، وقساوتها، على خشبة مسرح الواقع والعبث. وهل هناك أكثر عبثية من الحرب والموت المجاني…؟
للقفازات
عناقٌ خاصٌ
بوجه الضحية
جمعوا رفات أخي في سلة
بعدما أخذت الكلاب
حصتها من اللحم…!
* * *
ومما نلاحظه أيضا في هذه القصائد هو أن الشاعر أحمد ضياء يفتح باب القصيدة على مصراعيه، ثم يغلقه بخاتمة، أو بما يشعر بها. وهو في ذلك يختلف عن كثيرين ممن يكتبون قصيدة النثر حاليا، حيث نراهم يدخلون في القصيدة، تاركين أبوابها مشرعة على الآتي كمفاجئات الحياة، تائهين في التفاصيل فيخرجون في الغالب عن الموضوع دون أن تعرف قصائدهم نهاية وأحيانا المقصود والهدف منها.
بلوزة الانفجار ألبستني خفيها
منظار عفنها يتدحرج لحما
نتن لهب الشظية وهو يدحس منخريه عنوة في جسدي
أحشو عيني المزدانة والملطخة بكبرياء الفجيعة
أعطي المخضبين مشيب الإسعاف
إذ تحمل برد أجسادكم المبللة
تولد الحروب أجنة
* * *
ولا تكمن الشاعرية في تعابير القصائد فقط، بل أيضا في العناوين التي تُشكل بحد ذاتها جزءا لا يتجزأ من القصائد. بل هي قصائد قائمة بذاتها فيما لو أعيد ترتيبها، ووضعها مع بعضها مرة أخرى دون أية إضافات… وكمثال على ذلك هذه العناوين:
وحدها التوابيت لملمت ما بقي منا
أنا وإخوتي عيوننا تتنافس على القبر
في معجم القتلى
تستوعب الصهاريج خانات الجثث
تحسب حيازتها للشظية
تدرك انغماسها في جوف الخجل
* * *==================
مقال خاص لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة