ديوان أساور الرياض .. تشابك أساور العشّاق وأوجاع الأوطان

28 مايو 2019
ديوان أساور الرياض .. تشابك أساور العشّاق وأوجاع الأوطان

خالد بريش

خالد بريش

كاتب لبناني – باريس

كانت الأساور يوما هدية فارس الحب لمحبوبته، إلا أن الشاعرة الأردنية ميسون طه النوباني شغلت من حروفها أساور، شحنتها بنبض تفعيلاتها، وأرادتها أن تكون هديتها للقُراء. حيث أصدرت ديوانها الأخير « أساور الرياض »، في عَمَّان عن وزارة الثقافة الأردنية، كعمل متميز تقدم من خلاله للقراء قطافها المتنوع، صورا وصيغا شعرية وإيقاعا ونغما وتفعيلات لا تحتاج إلى كبير عناء لكي تتوالف مع القارئ مشاعرا ومعاناة وحلما. وقد جمعت فيه ما بين الموزون المقفى على النمط الخليلي، والقصيدة النثرية الحديثة. وتابعت من خلاله إبحارها في عوالم الروح والوجدان والحب والوطن، في قصائد تراوحت ما بين الطويلة والقصيرة. 

يستمد الديوان اسمه من عنوان إحدى قصائده التي تحمل بوحا بعد معاناة، ووخز شوك أصاب الأصابع فجرَّحها، ككل الذين يصابون بلفحات الحب، ولا تكون لهم مع وروده نهاية سعيدة. وقد سبكت الشاعرة عباراتها منظومة متناسقة من مقام « السهل المُمْتنع »، إذ لا يحتاج القارئ إلى قواميس ومعاجم لغوية لكي يدرك فحواها، ويسافر خياله في عباب معانيها. مستخدمة أحيانا المباشرة في التعبير دون مواربة. تاركة للقارئ الخيار في أن يُسرَّ، ويحس بالسعادة، أو أن يغضب ويتألم. وأحيانا أخرى سلكت طريق الإيماء والرمز إلى الأمور والقضايا التي تطرق أبوابها. في الوقت الذي يرتب فيه متخيل القارئ التفاصيل، ويحدد أطرها، ويختار مقدار غوصه في لججها، أو يفضل البقاء على شطئانها. 

عاريةٌ أشْجارُ الصَّحْراء

ترْقُد وَشْمًا في الأرْض

وتضْمُرُ في الأغْصان

عُيونُ المَاءِ

وفي قصيدة أخرى بعنوان « هو ذا جُرْحك » تقول:

هذا جُرْحُكَ

نهْرٌ يتعَثّرُ بالرِّيحِ

خطوات تذْبُلُ في ريْعانِ الحُلمِ

طِفْلٌ في أعْماقِكَ يَصْرُخُ

لا رَغْبَة لِي بالمَاء…!

وقامت الشاعرة نوباني في ديوانها هذا، بزيارات لشعراء كثر، من حيث توليفة المعاني والصور التي ضمنتها ديوانها الذي ارتوى من دجلة والفرات والنيل، فأثمر تفعيلات وتعابير وإيقاعات. بعضها صوفي متجرد عن ماديات الحياة، غارقا في حالة عشق روحي. وبعضها إنساني ينبض بنظرات، وهمسات ولفتات الحبيب. وبعضها الآخر ينبض بحب أوطانٍ أهدت البشرية حضارات، ومعارف على أنواعها، لا ينكر فضلها ودورها إلا جاحد لضوء الشمس. وأخرى عكست إشعاعات حضارات بلاد الشام المختلفة، وتلك التي نشأت ما بين النهرين، أو على ضفاف النيل. ليُخْتصر كل ذلك في حضارة العروبة لونا وعبقا: 

حِينَ أغَنّي

تلْتفِتُ عَصافيرُ الكوْنِ  إليَّ

يَلتفِتُ الحُورُ على أشْجارِ الأرْزِ

يَشْرَبُ دِجْلة منْ نهْرِ النيلِ فُراتًا

وَتَرْبِتُ كفّ الله على كتِفِ القُدْس…

ويسجل الوطن حضوره بقوة، من خلال كل ما تتحدث عنه من زهر، وشجر، وغياب شمس، أو ظلال قمر الخ… فتنادي الوطن شاكية له لوعة الحب والهيام، وأحيانا لا مبالاة البعض. كما في قصيدتها « كذبة نيسان »، إشارة إلى أن حب الأوطان غدا في هذه الأيام بالنسبة للبعض كذبة كبيرة، ونفاقا، ومغْناة لا تمت له بصلة. فتعلن بوضوح: إن المدعين لحب الأوطان نفاقا هم من يقومون بذبحها من الوريد إلى الوريد بلا حياء…!

وغدٌ يا وطني رغد

وأنا لا أتملّق

بلْ أكْذِبُ كالعادةِ

في أول نيسان

خِيانة…

ويتأرجح الشعر الموزون في هذا الديوان بين مدرستين: 

أولاهما تغوص في الماضي، حيث كان الشعراء يُطرِّزون قصائدهم بأبيات حكمية تُبرهِن عن تمكنهم من قياد الكلمة، وفلسفتها، ومضمونها، وتربعهم على عرشها. وتلخص أيضا آراءهم في الحياة، والمواقف الإنسانية المختلفة، وذلك كما في قصيدتها « جَمْرُ الفِراق »، حيث تقول:

لوِّ بكفك للحبيب مُوَدِّعـــــــــــا 

واصْحَبْ لِعَيْنيكَ الدَّوَاءَ مَدامِـعا

ما مِنْ حبيبٍ غابَ عنْ مَحْبوبِه 

إلا على جَمْر الفُراقِ تَجَمَّـــــعا

وثانيتهما مدرسة الشعر الذي ساد في عصر النهضة في أوائل القرن الماضي، مُعرجة في نفس الوقت على أبواب شعر المهجر، إن كان من حيث الموسيقى والتفعيلة، أو من حيث المعاني الإنسانية والمشاعر الجياشة، كما في قصيدتها « أساور الرياض »، والتي تقول في مطلعها:

عَتبُ الوَرْدِ عَــــــلى النّدى عَتبي

يَمْضي الصَّباحُ وَمَـا قضى أرَبي 

أجْني السَّرابَ ومَــا قطعْتُ لهُ يَدا 

عَلّي أفِلُّ النّارَ مِـــــــــــنْ حَطبي

علَّ الــــــــسَّماء إِذا رأتْكَ مُفارِقًا 

تبْكِ عَــــــــــــــليَّ فينْمَحي تعَبي

كُنا وكانَ القلبُ في وضْحِ الدّجى

قمَرًا يُحيط الأرْضَ بِـــــــالشّهُبِ

وحملت بعض قصائد الديوان معاناة الناس المهمشين، وأنينهم، ورجع أصواتهم، في عبارات تتساقط على ثنايا دواخل القارئ كلسعات سوط، لِتُنبهها إلى حقائق مؤلمة وفجة، أصبحت جزءا من يومياته، ومن المناظر المألوفة لديه. فتتوقف عند النسوة اللواتي يفترشن الأرض، ويبعن الفجل، والنعناع، والمِيرامِيَّة. وعند الأطفال الذين يبيعون الورود على نواصي الطرقات، وإشارات المرور…

ما زالَ الأطفالُ يبيعونَ الوَرْدَ

على الأرْضِ الصَّمَّاء

والعَرَقُ المَالِحُ

يَقْطرُ فوْقَ جَبينِ الوَرْدَةِ

كالمَاءِ

فيتوهُ العُشّاق

أَيَهْوَوْنَ الوَرْدَةَ

أمْ يبْكونَ على جُرْحِ الفُقراء…؟

وإذا كان شال الحرير الخاص بحبيبة الشاعر نزار قباني، قد تركته على سور حديقته مُنتّفا « تركتْ بِسورِ حَدِيقتي … شَالَ الحَريرِ مُنَتّفا »، فإن شال شاعرتنا البنفسجي، المُحمَّل بضوع الفرح القادم لا محالة، يلتف طواعية على عنق الأشجار، لكي يُمَوْسِق خُضْرتها، ويجعل أوراقها تُدَنْدن فتُهَزْهِز غيوم السماء، فتنضح مطرًا عاطرًا يتراقص الفراشُ على ألحانه، فيتكاثر مُبشرا بربيعٍ يدوم ولا ينتهي. وتلد دِجْلة نحْلا ــ أي أطفالا يغدون رجالا يَعاسِيبا ــ يعلو مُحلقا في الأفق الأزرق، فيكون أزيزه صُراخا، وأناشيدَ عِزّ لبغداد:

يا بغُدادُ

أهْدَيْتُك مَا أهْدَيْتُك

مِنْ وَجَعِ الغُرْبَةِ

وَالغَارُ أصابِعكِ الغَضَّة

مِنْكِ العَوْسَجُ وَالحِنّاءُ ومِنْكِ العَنْبَرُ

مِنّي الطيُّونُ

وَمِنّي الزّعْتَرُ

مِنّى الرَّمْلُ إِذَا حَشْرَجَ لِلخُضْرَةِ

مِنْكِ الجَدْوَلُ…

أما في قصيدتها « عَرَّافة »، فإنها تخطو فيها على مذهب الأقدمين، حيث لا تغرق في وصف تفاصيل العرَّافة، وحركات يديها وقعدتها، وشكل ثيابها. بل تجعل منها مدخلا إلى صميم الواقع، بعدما زركشتها ببعض الحِكم كالتي وردت على ألسنة العرافين في الجاهلية، كاستحالة وجود الخل الوفي مثلا. مؤكدة على مقولة « كذب العرافون ولو… »، شاحنة إياها بأشجانها، وبعضا من معاناتها…

ضَرَبَتِ الرَّمْلَ مِنْ حِينٍ لِــــحينِ 

وأذْعَنتِ المَصَــــــــــــائِر لِليَقينِ

أمَـــــــــــا مِنْ مَرَّةٍ ترْمينَ سَهْمًا

تُعيدُ مَلامِحَ الأفُقِ الــــــــــحَزينِ

جِراحٌ في الدُّروبِ إِذا اسْتجَارَت 

شمَالي لا تُداويهـــــــــــــا يَميني 

فَــــــــــــلا خِلٌّ يَدومُ وَلا صَديق

وَلا قطعَ الحَنينُ لــــــــهُم وتِينِي

أرى الأحْجَارَ قدْ نَطقتْ وَلــــكِن 

دَعِيني مِنْ حَرائِقِهــــــــا دَعِيني

وإن كان من كلمة أخيرة في قصائد هذا الديوان، فهي أن كثيرًا من قصائده، تصلح للتلحين، وأن تكون مُغنّاة من حيث موسيقاها، ومعانيها، فيما لو وضع لها مذهب، أو لازمة. فتعوضنا بالتالي عما يجرح آذاننا في هذه الآونة من كلمات وعبارات، وألفاظ لا يليق بأن توصف بالشعر، ولا تتناسب مع عقل وخُلق إنسانيتنا.

******


مقال خاص لصحيفة – قريش- ملحق ثقافات وآداب -لندن

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com