الاماراتي الهدية..هل يصبح آخر شعراء المعلّقات؟

26 أغسطس 2019
الاماراتي الهدية..هل يصبح آخر شعراء المعلّقات؟

برع في المشهد الشعري ورسم حروف قصيدته بدقة استخدام المفردة 

أبدع الهدية في تضمين وصف الملحمة عبر أبياته ، وغلف مضمونها بألم الفراق

كرس الشاعر صوره الذهنية لاستحضار الموروث فأخرج معلقة لا تضاهى

سعد الدغمان

سعد الدغمان

عبدالله الهدية الشحي

عمد الشاعر عبد الله الهدية الشحي لبناء قصيدته (معلقته) على تكريس الصورة الذهنية واستحضار الموروث من خلال أبياته ليوحي بملحمة خالطت بين ما كان والحاضر، رسم أبعاداً للمدينة القديمة في خطابه وكأنه يوجز عذابات تختلج في صدره  ليوظفها 

بشكل المخاطب في أبياته، كما في القصيدة “أضاعوني”  محل الدراسة ،والتي أبدع فيها  وأجاز ، ونقل صرخة مدوية في سماء الشعر الفصيح ، حتى خالنا أن ما سطره هو من المعلقات فعلاً، جاء الهدية ليُضَمن أبياته في هذه القصيدة على شكل حوار مبهم ما بينه و” جلفار ” مدينته الخالدة ( رأس الخيمة) و التي لا ينتظر منها أن ترد له جواباً يفسر تساؤلات ما احتوت أبياته.

استخدم الشاعر كل الصيغ اللفظية وعناصر السرد بتداخل ليشكل مفردات قصيدته ، فعمد الى تقريب الصورة عبر الاستهلال بالمخاطب ( جلفار) ، ثم عرج على تكثيف المفردة  الشعرية بياء النداء ليورد جواب شرطه الذي مثله بالسعي ( ساعيا)، وهنا يكون قد مازج نداءه بضرورة التلبية. ومنها خرج ليضفي على صورته الشعرية اكتمالها في البيت الثاني الذي داخل فيه الحسي باللفظي عبر (أدعو) ، وتلبية النداء.طوع الهدية الخطاب الديني ليكمل معنى ما ذهب اليه، فكانت تجليات الدعاء  أن (لبى الحجيج ورائيا)، ما يعني أن عبد الله الهدية له القدرة على مزج التخيلات الذهنية وصياغتها عبر أبياته  مع الهواجس الدينية ،إن صح تسميتها ، ليخرج لنا نصاً أشبه بالمقدس في كثير من الأديان.

سبقه في ذلك هوميروس في” الإلياذة ” ، والشهنامة  التي يقدسها الفرس ” للفردوسي “، وهذه ملاحم نثرية يتداخل فيها الشعري مع النثر ، لكن القاسم المشترك فيها أن كانت مقدسة عند تلك الأقوام.

أراد الشاعر أن يظهر ” جلفار” مدينته التي نشأ فيها وتربى ، وغالباً على الطابع الديني الثقافي ، كون جلفار  (المدينة) لا تفرق عن باقي مدن الخليج عموماً بأن التعليم فيها في العصر الماضي كان دينياً يعتمد على  (المطوع) أو ما يعرف بالكتاتيب في بعض بلداننا العربية. لذلك طغت ربما دون قصد لدى الهدية خلجات ذلك الآرث التعليمي على وصف بعض من أبياته.

ودائماً ما نبحث عن المنقذ ( الملاذ) في يومياتنا، وأرجعها أيضاً لما ورثناه من المنهج القصص الديني الذي تأثرنا به سواء كمسلمين ، أو من غير الأديان، ففكرة ( المخلص) تسيطر على كل تعاليم الأديان السماوية ، وحتى الوضعية، ناهيك عن قصص الأطفال الخيالية التي تسردها (الجدات)، وهي أيضاً مصبوغة بالعامل الديني.  ومنه دخل الهدية ليضفي على قصيدته تلك الهواجس التي تخلد ذلك الانتظار المشحون بالعواطف والأحاسيس المليئة بالترقب لظهور (المخلص) ، أي أن الهدية كان  قد وظف التصور الديني في عمق خطابه الشعري ليضفي على صوره الشعرية مزيداً من التقديس.

أخـبـر أهـيـل الحي عمن سامني
بـلـسـانـه حـيـن استثار ولائيا
أعـلـى الـولاء يـزايـدون بغيهم
ولَـكَـم زرعـت بـخافقي جلفاريا
جـلـفـار والأيـام سـفـرٌ بـيننا
هـل كـنـت إلا الـمخلص المتفانيا

قارب في الكثير من أبياته في المقطع الأول لاستخدام الوصف ، مضمناً إياه الوجع الذي لف شكل القصيدة  التي اخترنا منها مقاطع  معينة من مطلعها فقط ، ولم نأتي عليها كاملة، وعمد لتوظيف الماضي بشكل الرثاء ، أو كما في المعلقات استخدم ” البكاء على الأطلال” عبر تكرار النداء ب ( يا) التي أطرت مطلع القصيدة لتوحي للمخاطب الذي كابدته لوعة الحب  وعبر عنه الشاعر بخطابه ” لجلفار” .

” أضاعوني” 

جـلـفـار جـئـتك يا ملاذي ساعيا

أدعـو وقـد لـبّـى الحجيج ورائيا

مـطَّـوفـاً حـول الـمآسي مرغماً

أمـشـي عـلـى وجع الليالي حافيا

أمـشـي وقـد هـد الزمان تصبري

واسـتـوطـن الـجرح النديُّ كيانيا

أنـى التفت أرى الشخوص تلف بي

تـرثـي كـما ارثي الزمان الماضيا

جـلـفـار يـا جـلـفار إني مغرمٌ

وهـواك اتـعـب بـالـسهاد مناميا

استطاع الهدية أن يوظف الخطاب القرآني ، مستمداً من قصصه مفردات بناء الفقرة الثانية من قصيدته ، ليظهر لنا نمطاً جميلاً  لم يكن غير مسبوق طبعاً ، لكن دقة استخدام المفردة القرآنية أضفت على شكل القصيدة ما يوحي بالملحمي، وينتج وصفاً ربما أبدع فيه الشاعر حين ضمنه أبياته.

نجح في الاستعارة اللفظية وتكريسها ، بحيث كانت أقرب لذهن المتلقي لأن تكون صورة  متخيلة مكتملة العناصر وممزوجة بموسيقى تتخفى وراء ما أستخدم الهدية من مفردات. وأجاد في توظيف المتضادات اللغوية ليكُون معلماً من معالم الإبداع الشعري في ثنايا أبياته التي كانت تنطق بمضامينها عن بعد حتى قبل استدراك معانيها. 

تـسـعٌ عـجـافٌ قـد أكلن سنابلي

وسـلـبـن مـن ناي الصدى ألحانيا

والـهاجس المزروع في رئة الرؤى

أدمـى طـمـوحي واستباح صوابيا

كـل الـمـواكـب للكواكب سافرت

إلا دروبــي لا تـزال جـواثـيـا

أتـصـحـرٌ لـلرأي في عهد الندى

ويـلاهُ بـل هـم صـادروا أفكاريا

حمل قصيدته ألماً وتَضمر ووجع في دواخلها ، لكنها لا تَتَهم بل تؤشر واقعاً وتحاكي أزمان بصورها ومآسيها، يجذب القارىء إليه رغماً عنه، فكلماته تنادي بصوت مسموع ليقرأها الناظر بألم وحرقة يقصدها (الهدية) ليَعبر من خلالها الى السنين ، توصف كلماته بأنها عفوية تنبع من عبق التاريخ ، لذلك تأتي صادقة يلمس فيها القارىء صدق انتمائه إلى مدينته ( جلفار) ، هادئ جداً لكن مرجلاً يغلي في داخله كفورة غضب على واقع  غادره الإبداع ولا يملك من تغييره إلا الكلمات ليوجهها وبصوته الخفيض رصاصة لمن لا يريد للمشهد الثقافي أن يتبؤا مكانته المرموقة.هي صورة لفظية كرس منخلالها بالمتناقضات الدلالية الوصفية لتقريبها من ذهن القارىء، فأجاد وأبدع.

أختزل الشاعر كثيراً من المشاهد بثنائية جميلة ومعبرة حد التخمة في الفهم ، ليرسل إشاراته عبرها للقارئ ويترك مفردات مقارنته تتحكم بالتفسير الذي يبغيه من كلمات القصيدة ، وليس المعنى كما عند غيره ( في قلب الشاعر)، بل معاني كثيرة يُحَملها (الهدية)  قصيدته  ويطرحها للمتلقي على طبق الدهشة والاستغراب بأسلوب الفهم المبسط دون حاجة لتعقيد، كما ذكرنا في الآبيات السابقة ،أجاد باستخدام التشبيه في أكثر من مكان ليوصل المعنى وإن كان ضمنياً، لكنه جاء بوضوح تام ليجسد المعنى المكاني للتشبيه والدلالة، فكانت أبياته جلية في تحديداتها عبر استخدام المتضادات اللغوية.وهي تحمل فرق شاسع في ترادفات المعنى أو تناقضاته، لكنها تُبقي على رمزيتها ودلالتها اللفظية والمعنوية.

قـد هـاجـر الإبداع مكسور الخطى

مـتـلـفـتـاً نـحو الأهالي شاكيا

هـذي أسـاطـيـل الـثقافة تشتكي

وبـدت أسـاطـيـر الرواة رواسيا

تـاهـت تضاريس السواحل أبحرت

مـدن الـرجـال مع السراب بواكيا

حـتـى شـراعك يا ابن ماجد لم يعد

كـالأمـس يـمـخـر مدنا المتراميا

ضـاعـت خـرائطه اليتامى حينما

فـرض الـنفاق على الوجود أساميا

كما أجاد الهدية أيضاً وأبدع في المقاربات التي ضمنها قصيدته وتنقل بالمخاطب إلى الوصف ، ومن الوصف الى التناقض، حتى يخال للقارئ إن ما ضمنه الهدية  أبياته عبارة عن قصائد عدة صقلت لتشكل في بوتقة واحدة مجموعة من الأحاسيس المتناقضة في سياقها، قَدِمت من الماضي  مروراً بالتمسك بالأرض ثم ماتعيشه المجتمعات من تشتت فكري فرضته العوالم الغريبة التي نعيشها اليوم (وبـدت أسـاطـيـر الرواة رواسيا)، ثم تداخل الموروث الديني، والغيبيات وصولاً للشعور الذي يجمع أطرافا متباعدة مختلفة التوجهات، حتى يضع رحال ما اخترنا من  أبيات بمعاناة  جسدها من خلال استخدامه الوصف ليرسم صورة ما وصفناه بالتشتت الفكري. وليضفي على قصيدته صبغة محببة، وتصوير جميل لمعاناة طالت وكرست همومها مراحل تاريخية، لم يكن من نصيب الإنسان فيها سوى ضيق المتدارك، وأضيق الأفق.

تـاهـت تضاريس السواحل أبحرت

مـدن الـرجـال مع السراب بواكي

ثـارت عـلـيـه سافيات وصولهم

حـسـداً فـصـار الـغث فناً ساميا

مـنـفـيـةٌ أرجـوزة الإبحار عن

أوطـانـهـا مـن ذا يـعـيد قوافيا

نـبـذوا نـفـائـسها وراء ظهورهم

واسـتـقـبلوا العبث الهزيل الواهيا

قـطـعـوا مـسارات الوصال فكلما

يـمـمـت نـحوك أوصدوا أبوابيا

بقي أن نعرف أن الشاعر عبد الله الهدية الشحي  من مواليد رأس الخيمة ( الإمارات العربية المتحدة) 1962، كتب الشعر الفصيح والنبطي وأبدع فيه، بالإضافة إلى أنه برع في فن الأوبريت، خاض في بحور الشعر المختلفة منذ عقده الثاني من عمره.

شارك في العديد من الأمسيات داخل الدولةوخارجها، ومثل بلاده في أسابيع شعرية في عدة دول ، ساهم في إثراء المشهد الشعري والثقافي وارتقى بالحركة الأدبية بالإمارات من خلال سلسلة من المحاضرات والندوات واللقاءات الأدبية التي أقيمت المراكز والمؤسسات والنوادي واتحاد كتاب وأدباء الإمارات، وهو يعمل على تكريس حب الشعر الفصيح والنبطي وعلم العروض والقوافي من خلال البرامج الإذاعيةالتي يقدمها.

صدرت له إصدارات عدة منها: ” ابتسام العمر” و “إلى متى ” و” أين أنت “، نشر قصائده في مختلف الصحف والمجلات  في الإمارات وخارجها. كما حصل الشاعر الهدية الشحي على العديد 

له إصدارات عدة منها: «ابتسام العمر» و«إلى متى» و«أين أنت»، ينشر قصائده في مختلف الصحف والمجلات  في الإمارات وخارجها ، وقد حصل  الشاعر الهدية الشحي على العديد من الجوائز في مجال الشعر، منها جائزة العويس للإبداع عن ديوانه «الباحث عن إرم» كأفضل ديوان شعر. 

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com