الشاعرة التونسية حسيبة قنوني في عطر الغياب

17 سبتمبر 2019
الشاعرة التونسية حسيبة قنوني في عطر الغياب

الشاعرة التونسية حسيبة قنوني

تجعل من حروف شعرها ضوع عطور للغياب

قراءة: خالد بريش

خالد بريش

كاتب لبناني – باريس

أكثر من ثلاثين قصيدة تقدمها الشاعرة التونسية حسيبة صنديد القنوني للقراء من خلال ديوانها الجديد « عطر الغياب»، الذي تضمن قصائد موزونة مقفاة على النمط الخلايلي، وأخرى تنتمي لشعر التفعيلة. وهي في ديوانها هذا وفيَّة لإصداراتها السابقة، حيث تستخدم لغة عربية أصيلة، لا تخرج عن المتعارف إلى المستغرب، أو العامية. بل تلتزم بالفصحى، مختارة ألفاظها بدقة لكي تعبر عن أفكارها بشكل محكم لا يقبل الجدل، ومباشر يتناسب في نفس الوقت مع طبيعة الشعر الذي تكتبه ومواضيعه.

تتخذ قصائد الديوان منحيين من حيث المنهل والتأثر. أحدهما، مدرسة الشابي الأصيلة وبالأخص من حيث أجواء بنية القصيدة، وتطرقها للطبيعة، ووصفها، والتساؤلات التي تطرحها على الذات، والتعبير عن المشاعر وحب الوطن. والآخر، الشعر الأندلسي؛ صورا وتراكيب، وجرسا موسيقيا غنائيا، لا يحتاج القارئ إلى كبير عناء لكي يكتشفه. فالأندلس تسكن كيانها، ونشأت على رحيق وترانيم تفعيلات شعرها وموسيقاها. فأدخلت الشاعرة حسيبة القنوني من خلال ديوانها القراء إلى عوالم ذلك الفردوس المفقود، وأجلستهم على أرائك قصوره، أمام نوافير مياهه، وبين زهور حدائقه، وياسمينه، ورياحينه. ملقية عليهم قصائدها وما تضمنته من حكم في خلق الإله لمخلوقاته. وأخرى في كيفية التعامل مع الحياة والطبيعة والزهور.

مَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا أجْمَلَ الوَرْدَ بِالأشْواكِ زينتها 

هَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلا رأيتُم عُيونًا دونَ رقْشِ

سُبْحانَ مَنْ أنْبتَ الأرْضَ مَشـــــــــــــــــــــــــاعِرَها 

تزْدانُ في الخَدِّ والأعْناقِ والفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرشِ

لا تقْطفِ الـــــــــــــــــــورْدَ إلا عـــــــــــــــــــلى لــــــــــــــــــــطفٍ 

فالشوْكُ يُدْمي رَهيفَ الجِلْدِ بالخَدَشِ

والعالم الشعري للشاعرة حسيبة القنوني يتخطى عالمها الإنساني الخاص، إلى مختلف نواحي الحياة الإنسانية، والاجتماعية، والسياسية، والعاطفية، والتربوية. فنراها تتناول في أشعارها كل ما يدور من حولها حدثا، ومشاعر، وترانيم حياة، بحلوها ومرها، مباشرة أو تلميحا. طبعا دون أن تنسى نفسها كإنسانة، وإن كان بوحها قد تلطى واختبأ بهدوء وراء مفرداتها، إلا أن القارئ الحصيف يستطيع تتبع كثيرا من فصوله وفواصله. 

نبْضُ حُروفي وَأوْرَادِي كَــــــــــــــــــــــــذا القلمُ 

والليلُ والنَّجْمُ والأنْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوارُ والعَتمُ

والشّــــــــــــــمْسُ تَدْعو لِجَرِّ الحُرفِ أغْزِلهُ 

أسْطورَةَ العِشْقِ مَنْ بالرُّوح يَرْتَسِمُ

هَذا مِدادِي عَلى البيْضاءِ أسْـــــــــــــــــــكُبُهُ

بَوْحًا شَـــــــــــــــــــــــــــجِيًّا فيُزْهِرُ الأفقُ والحُلُمُ

حَرْفٌ جَميلٌ وإِحْســـــــــــــــــــــــــــــاسٌ يُراوِدُنِي 

يَنْســـــــــــــالُ عِطْرًا وَيَحْلو الشِّعْرُ وَالكَلِمُ

وقد خصت المعلم المربي، والجندي المجهول في الجتمعات بصفة عامة بقصيدة. أوضحت في أبياتها دوره في تنشئة الأجيال وتربيتهم، وبناء المجتمعات والأوطان ونهضتها، وفضله في تثقيف وتعليم كافة طبقات المجتمع. والمصاعب التي تعترضه خلال تأديته لمهمته. وعلاقته بتلاميذه. معترفة بفضله الذي لا ينكره إلا جاحد لنور الشمس. فتخاطبه في أبيات قصيدتها هذه بشكل مباشر:

أَنْتَ المَنـــــــــــارةُ إِذْ تُضيءُ دُرُوبَنا 

وَبِنورِكَ الأَسْنَى نَسيرُ ونَسْـــــــعَدُ

عَلمْتَنا أَسَاسَ الحَيَاةِ وخُلُقها 

وَبِحَرْفِكَ الوَهَّـــــــاج صِرْنَا نُغَرِّدُ 

ومما يستلفت الانتباه في هذا الديوان هو أن قصائده لا تنحصر في مجتمع الشاعرة ووطنها تونس. بل هناك حالة من الالتزام بالقضايا الإنسانية عامة، وكذلك في القضايا السياسية والوطنية لبلاد العروبة. فنراها تطل على كل أوطان العروبة، من العراق إلى دمشق وفلسطين وقدسها الشريف. محاربة بكلمتها وتفاعيل شعرها، كأي شاعر يحمل عبء شرف الكلمة، ومسؤوليتها. فعرضت بمشاعر صادقة لمعاناة أوطاننا، وبحار الدماء التي تسيل في مدنها، وصحرائها، ولكثير من المشاكل والمآسي التي تواجه شبابها:

مَجْدُ العُرُوبةِ قَــــــــــــــــــــدْ خَبَتْ أَنْوَارُهُ  

نَحْوَ العِدَى مَا عَادَ سَيْفًا مُشهَرا 

هَـــــــــــــــــــــــــــلْ تَاهَ حَقًا رَكْبُنا عَنْ رَكْبِهِم 

وَبِحِفْنَةِ الدُّولار أَوْهَامًــــــــــــــــــــــــــــــا شَرَى

وتنادي في نفس القصيدة عراق العروبة الذي نفتقده ونفتقد دوره قائلة:

لَهَفِي عَلَيْكَ يَا عِراق مَجْدٍ مُوغِلٍ 

الموْتُ مَزَّقَ فيك عِقْدًا أَخْـــــــــــــــــضَرا

بَغْدادُ والشُّــــــــــــــــعَراءُ، لا، لا تَظْمَئي 

فَفُراتُكِ الرَّقْراقُ يَجْري كَـــــــــــــــــــــــــوْثَرا 

إِنْ كانَ ظُلْمًا مِنْ ذِئابٍ قَدْ عَوَتْ 

فَالله حَيٌّ.. إِذْ يُجيزُ الصَّابـِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرا

واختارت الشاعرة بعض صديقاتها الشاعرات لتدعوهن إلى مائدة شعرها. فأخاطت وصديقتها الشاعرة السورية زينب رمانة قصيدة شكلت حوارا بينهما. مما أضفى على الديوان حيوية إنسانية حتى ليخال القارئ نفسه يستمع إليهما أمامه على خشبة المسرح. وهذه القصيدة عبارة عن استحضار واستدعاء لذكريات، وعتب ونقاش حميم، تضمن توصيفات للطبيعة وزهورها. ومغيب لشمس وقمر. ومناجاة لحبيب. وبوح راق ممتع، يحمل القارئ نحو أحلام مخملية سادت قبل عصر الإنترنيت. أي من قبل أن تفرغ اللغة من مضامينها، ومعانيها، ووقعها على النفس والأذن على حد سواء. وذلك عندما كانت النظرات تختصر القصائد الطوال. منها:

مَـــــــــــــــــا زِلْتُ أنْتظِرُ قُدومَكَ 

أَعُدُّ نُجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــومَ الليَالي 

أَحْتَسي كُــــــــــــــؤُوسَ الصَّبْر

أَفِيضُ شَـــــــــــــــــــــــــوْقًا لِلْمَطَر 

وَأَسْأَلْ ســـِــــــــــرّي وَأَخْبَاري 

هَلْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِحَالي…؟

أما صديقتها الشاعرة الفلسطينية جميلة سلامة، فقد دخلت عالم هذا الديوان وملاعبه لكي تغرس في ساحته إحدى ورودها، أعني قصائدها. ذاهبة في نفس طريق الديوان الذي سارت عليه الشاعرة حسيبة القنوني وموضوعه، محملة قصيدتها بنفس المعاني فتقول:

يَأْتِي الغِيَابُ فَيَرْحَـــــــــــــــــلُ الأَحْبَابُ 

وَيَنامُ فِي شَفَةِ السُّـــــــــؤَالِ جَوَابُ

سَتغِيبُ يَوْمًا كُــــــــــلُّ أَحْلامي هُنا

سَـــــــــــيَحُولُ دونَ لِقائِنا الحِجَابُ

لَمْ يَبْقَ في رَمْلِ الحِكايَةِ قَبْضَةٌ 

مَـــــــــــــــــا عَادَ في كَرْمِ الجَنَى أَعْنَابُ

وتتذكر الشاعرة في ديوانها أيضا الشاعر التونسي الراحل محمد البيَّاسي. وفاء لذكراه، ولدوره في تأسيس رابطة الشعراء العرب، وفي حركة الشعر. ليس في تونس فقط، بل على امتداد ساحة بلاد العروبة منها هذه الأبيات:

قَصيدٌ وذِكْرَى وأحْلامُ قصْر

في كُــــــــــــــــــــــــلِّ رُكْنٍ يُنادِي صَدَاه

بِشِـــــــــــــــــعْر القوَافي ونَبْعِ الوَفَاء

لِرُوحِكَ بَشْـــــــــــــــرى نَعِيمِ الِإله

ويمكننا القول بأن الخاص والعام في قصائد هذا الديوان متداخلان بشكل يصعب فصلهما عن بعضهما لكون الشاعرة تتشارك فيهما إنسانيا وعاطفيا ووطنية مع كل أبناء البشر. وحتى الأسئلة والإشكاليات ذات المنحى الفلسفي والعاطفي هي من حيث المضمون والمؤدى إنسانية عامة وليست محصورة بها وبشخصها.

أُسَــــــائِلُ نفْسي فَماذَا تُريد ؟ 

لمــــــــــــــــــــــــــــــــاذا تُغَنّي ولا تَطْربُ…؟

وأَسْــــــــــــــــــــألُ روحي لماذا الظَمَأُ 

بِقُرْبِ العُيُونِ ولا تَشْــــــــربُ ؟

فَمَاذا جَرى يَا فُؤَادِي وَمَالي 

أَهِيمُ اشْـــــتِياقًا ولا أتْعَبُ…؟

ويبقى أن نشير إلى أن ديوان الشاعرة حسيبة صنديد القنوني صدر عن دار الثقافة للطباعة والنشر في المنستير بتونس الخضراء، وحوي ستا وثلاثين (36) قصيدة. 

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com