وَهْمُ الحُرِّية … متاهات سانطوريني الجميلة
عبد النور مزين
روائي من المغرب
من الأشياء الجميلة التي يمكن للمرء أن يستمتع بها هي تلك اللحظات المنفلتة من أي نوع من الرقابة، مادية كانت أو معنوية، حيث تتيح للمرء مساحة زمنية ولو محدودة ليمارس فيها “لا مسؤوليته” المؤقتة في أقرب تماس له مع مدار وهم وهاجس الحرية لديه.
إنها تلك اللحظات التي تفرض علينا، ودون سابق تدبير، أن نتخلص مؤقتا، من كل تلك الشراك المنصوبة حوالينا والتي تحدد خرائط المسؤولية في وعينا وفي الوقت نفسه خرائط وهم حريتنا في وعينا أيضا، وبالخصوص في لا وعينا.
هكذا كانت تلك اللحظات التي كنا نقضيها بانتظام تقريبا، كل أسبوع. نطلق العنان لذلك التداعي الحر لأفكارنا وأحلامنا وأغلالنا الكثيرة. هناك كانت الأغلال تبدو كبيرة جدا. تأخذ أكبر من حجمها الطبيعي خلال ذلك التداعي الحر الذي نستسلم له في لذة لا متناهية. كأننا كنا، عبر تلك المساحة، نتخلص من فائض الأحلام لدينا، والذي كان يبدو أنه يهدد بخنقنا إن لم نعدل من منسوب أحلامنا ووهم حريتنا.
لاحقا أضحت ” متاهات سانطوريني الجميلة“، هكذا سمينا ذلك الموعد الأسبوعي، مع الوقت جوعا حقيقيا إلى تلك الوجبة الروحية من التداعي الفكري الحر. لا شيء كان يعد مسبقا. لا الأفراد ولا المتاهات.
هناك شمال الأطلنطي وغرب المتوسط كانت تلك المتاهات المشتهاة في دروب طنجيس، وكان هذا التداعي الحر. أكانت صدفة تلك التي جعلت من حديقة سانطوريني بداية المتاهات المشتهاة.
أكانت إشارة يونانية على بوابة بحر الظلمات؟
مضى هرقل وظلت هيبريس على حالها تجتر جمر الأسئلة. وكنا نعشق تلك المتاهات. متاهات سانطوريني الجميلة.
لا أذكر أن الجمع زاد يوما عن عدد أصابع اليدين. ولم يحدث أن كانت بيننا امرأة بالرغم من متاهات سانطوريني الجميلة المشرعة دوما على أريج حدائق هيسبريس الواسعة.
لا أحد منا اقترح الفكرة ولا أحد منا لم يقترح.
كأنها لم تنضج بعد كفكرة، تماما كوهم الحرية.
نتوق إليها منذ الزمن السحيق حتى قبل أن يحل هرقل ببوابات هيسبريس الرابضة على جفن بحر الظلمات. ونخاف منها كأنها النهايات لهذا التداعي الحر. فكان أن كانت هذه اللحظات أكثر صدقا مما راكمته الخطابات والكتابات والإذاعات والفضائيات حتى الآن من ضجيج على أطلال هيسبريس.
لكننا خضنا في كل المتاهات إلا متاهة المرأة، وبقينا في “متاهات سانطوريني الجميلة” جمعا رجاليا نؤجل متاهة المرأة كأنها في اتفاق ضمني غير معلن ترقى إلى أم المتاهات، لن نصلها إلا عند نهاية التداعي الحر حيث يربض وهم الحرية الأكبر.
لكن المتاهات الجميلة الأخرى كانت كثيرة
تماما كأحلامنا الكثيرة.
وكانت لنا الحرية وهما جميلا
وكانت دوما المتاهة الأخرى وكنه الإشكالية.
كنا للحظات في “متاهات سانطوريني الجميلة” جمعا من الحالمين، وكنا منفلتين. كنا كتابا وقراء معا.
وكنا نقادا جنب ينابيع الحكاية.
وكان الشعر بيننا حرا طليقا
كالريح في الغاب قبل أن يصير الغاب نايا.
وكنا وحدنا. لم نكن إلا رجالا.
وكنا مسلحين وكانت كل مؤونتنا كتابا.
هكذا كانت، في البدء، فكرة هذا التداعي الحر، كأثر يبقى لكل تلك اللحظات المنفلتة والأقرب إلى ما نعتقد أنه الجزء الأصدق في أحلام وأوهام جمع “متاهات سانطوريني الجميلة“. ولعل الدافع الأقوى الذي حثني على المضي في هذا التداعي هو ذلك الكم الهائل من الحزن والمرارة التي كانت تنساب في انفلاتها التلقائي، ملقية بتلك الأطياف من خيباتنا المتتالية.
أكلُّ عناويننا كانت باطلة؟ لا حقيقة فيها غير الرمال والسراب.
قال صديقي الشاعر الشريف سيدي عبد السلام ولد باه الثالث عشر، وكان الجمع قد أضاف الرتبة الشجرية بعد أن وثق الجميع بأصل تلك الشجرة الضاربة في أقاصي الصحاري:
نسير والأفق هجير. ولا أثر للخطو على طول المسير.
وفي الذاكرة عويل الريح
وفي الذاكرة بقايا هدير.
في الذاكرة صمت نخلة
وانتظار خيمة
وشوق واحة
وانتظار يمامة
لحضن غدير.
هكذا تداعت كلماته ذلك المساء وهو يتلمس أسئلة متاهته. كنا نتجنب الأسئلة الحرجة التي تتعارض مع فلسفة الانفلات التي أضحت دستور “متاهات سانطوريني الجميلة“. لكنني وأنا أتذكر هجيره وتوقه الأصيل إلى وهم الحرية لديه أعدت تلك الأسئلة التي لم يسمح دستور المتاهات الجميلة بطرحها.
أبعْد كل هذا الحلم الطويل
أبعْد كل هذا التوق الرهيب
يسأل الشريف سيدي عبد السلام ولد باه الثالث عشر:
ألم نكن نطارد إلا السراب؟
ونحلم كل هذا العمر المديد
لنصحو على هذا الضجيج
ونطل على هذا الخراب.
نص خاص لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة