قبر فوق السحاب
ثرية البدوي
قاصة من المغرب
الليل جاثم على قلبي يتربص بي كشرطي مرور ليحصي زلاتي في الحلم . الوحدة قاتلة أيضا ولاصوت أستجير به ليكسر رتابة الزمان والمكان.
أشعل سيجارة نافرة. أنظر من شرفة البيت، الشارع يكاد يكون فارغا إلا من مواء بعض القطط ودوريات الأمن والكثير من التوجس والبؤس. منذ أن خرج شباب المدينة في احتجاج على تردي الأوضاع للمرةالثانية بعد انتفاضة الجوع. فراشات الليل سابحة في ملكوتها وهي تطوف بكعبة الأضواء العالية..
صوت مارسيل خليفة وهو يغني…..
المطر يهطل بقوة وأنا مازلت على شرفة البيت. أخذني منظره، وهو ينزل بسرعة، إلى ليالي باريس الخريفية، فسبحت ذاكرتي قليلا لم أتذكرصورا دقيقة إلى أن رنّ الهاتف على الجهة الأخرى من سريري كانت الساعة تشير إلى الثالثة فجرا كان صوت عمر من الضفة الأخرى للعالم.
-الوا ليلى صباح الخير حبيبتي اشتقت إليك كثيراً اعتذر عن الاتصال في هذا الوقت
صباح الخير عمر وكأن القدر قرأ دواخلي، كنت أفكر في خريف باريس أقصد في أيامنا بباريس. أنا أيضا اشتقت إليك. متى تزورنا؟
يبدو أني سأستعجل الحضور وقد لا أعود إلى هنا أبدا.
لماذا؟ ما الذي حدث؟
هنا كلّ شيء بارد؛ الطقس بارد، العواطف باردة. كلّ شيء بارد، كل ّشيء!
ماذا تعني بذلك؟
تغيرت أشياء كثيرة يا ليلى مذ عدت إلى المغرب. عشر سنوات مرت بسرعة البرق. باريس الثورية تغيرت أيضا لم تعد هي في الثمانينات. أنا في المطار حبيبتي.
أحبك ليلى أحبك وكفى!
« Suis- je toujours pour toi cette femme désabusée «
أرجوك ليلى أنا مازلت أحبك !!!
وانقطع الخط….
أخذت سيجارة ثانية أشعلتها، كمَن يحاول إحراق يأس دفين.
عشر سنوات مرت بسرعة البرق، مازلت أذكر ذلك اليوم جيدا. كنّا فرحين بحصولنا على الإجازة. خرجنا من الكلية ونحن نطير فرحا ، عبرنا شارع النصر ثم عرجنا على شارع مولاي يوسف في اتجاه شارع محمد الخامس . قصدنا مقهى باليما حيث يجلس المثقف، عابر السبيل والمخبر أيضا.
شربنا قهوتنا المعتادة على مهل، ضحكنا معا ونحن نرسم أحلاما على مهب الريح.
عند رحيلنا، كان غاضبا وحاقدا على وضع مأزوم، رغم محاولتي له بإقناعه ليعدل عن فكرة الهجرة.
-لمانغادر الآن، كيف سنسمح لأنفسنا بالتخلي عن حلم روضناه لسنوات!؟
قاطعتني وأنت تنفث بعصبية سيجارتك الماركيز، أنك لاتريد أن تنعتب الأوباش أو تصبح خفيفا أو دريا.
-نعم يا ليلى؛ أصولي الريفية ظلت لصيقة بي رغم أني ترعرعت وكبرت بالعاصمة كنت دوما تحت المراقبة داخل وخارج الكلية. لم يعد الوضع يحتمل. أن تموت من أجل عيش يليق ثم ينعتك جلاد بئيس بشهداء الكوميرا.
المخزن ياعزيزتي حليف الشيطان. ألم يقال لنا أنه أخرج آدم من الجنة بسبب تفاحة !! سنخرج نحن أيضا من وطننا بسبب كوميرا! ياللمفارقات !
تزوجنا ورحلنا معا إلى باريس ومرّت سبع سنوات على رحيلنا، دون أن تطأ لنا قدم وطناً غادرناه قسرا. مرضت أمي واستعجلت عائلتي قدومي إلى المغرب. ماكدت أصل من المطار حتى كانت أمي قد رحلت إلى الأبد. و كأنني مَن قتلها بسبب رحيلي دون أن أفكر فيها أو حتى أنظر خلفي لأقول: أعتذر لن أعود يا أمي “فالوطن ليس هنا”.
طيلة مكوثي في باريس كنت لا أتصل بها إلاّ لماما، وكأني أحاول أن أتخلص من أي شيء يذكرني بوطن يلفظ أبناءه.
الذكريات جراح غائرة بحافات جارحة والعمر قطار هارب والمشاعر بنت الكلب، وجروحي اعشوشب فيها الحزن واليأس، هذا ما شعرت به مع توالي الايام.
وأنا سابحة في ملكوت ذاكرتي وصلني هذا النص:
أحبك ونبض قلبي مدو كعاصفة شتاء في وطن حزين رسم ساحة إعدامه.
وتوالت الرسائل. لنعود إلى بعضينا وننسى كل الذي كان. لنجعل لناهوية جديدة ومختلفة، نعم مختلفة عما كنا عليه. ها أنت ترقبين الوضع في البلاد، الكل استدرج داخل دوامة المصالحة، لن يذكر أحد منذاليوم من رحلوا، لا أحد سيذكر أنهم خرجوا ضد الجوع والفقر. فاليوم، الكل يقول أن “حتى واحد مامات بالجوع الخير غير مدفك”.
نعم ياعمر لكن هل لخط التباعد أن يلتقي
هل لقلبي المثقل بالحزن أن يحمل حكايتنا من جديد
الزمن غير الذي كان.
هذا زمن الحرية الملغومة والهجرة الملغومة على قوارب الموت.
هذا زمن شعارات تتبدل وتتلون وترقص على وحدة ونص.
أتكئ على سريري، أغفو قليلا، يوقظني صوت المساعدة: أختي أختي فيقي مشى الحال!
أفتح عيني بتثاقل واضح. أتاملها وأطلب منها الانصراف لإعدادالفطور. أشعل التلفاز على إحدى قنوات الأخبار، تظهر مذيعة جميلة، قمحية اللون بمكياج خفيف. أنهض من السرير، أحاول استيعاب مانطقت به قبيل لحظات…سقوط طائرة قادمة من باريس في اتجاه مطار البيضاء فجر اليوم. وكل الشكوك تتجه نحو عمل إرهابي لم تعلن أية جهة مسؤوليتها عنه بعد.
قصة قصيرة خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة