شعر تحت سماء فرنسية يغترف من رحيق ماضي العرب

23 نوفمبر 2019
شعر تحت سماء فرنسية يغترف من رحيق ماضي العرب

خالد بريش

خالد بريش

كاتب لبناني – باريس

اسامة خليل

صدر منذ فترة وجيزة في العاصمة الفرنسية عن دار هارماتون الباريسية (Editions L’Harmattan)، ديوان جديد للشاعر المصري أسامة خليل بعنوان « صور من الخلود الرومانسي »، FIGURES DE L’ETERNITE ROMANTIQUE. وقد حوى الديوان قصائد بالعربية الفصحى، وأخرى بالعامية المصرية، أضفت على طبيعته نكهة خاصة. وقصائد أخرى بالفرنسية، أشبه ما تكون بتوارد الخواطر، والتداعي الحر. أو ملاحظات سجلها الشاعر على دفتر الأيام. مع بعض القصائد التي جاءت باللغتين العربية والفرنسية معا. 

تبدأ قصائد الديوان من ناحية اليسار بمقطع من رائعة الراحل نزار قباني « وقبلك كل النساء افتراض »، مصحوب بترجمة فرنسية. بينما تبدأ من اليمين، بفقرة من قصيدة الفيلسوف اليوناني بارمنيدس (Parménide)، قام الشاعر نفسه بترجمتها من اليونانية القديمة. وهي قصيدة تتناول إشكاليات كثيرة؛ كالوجود، والعدم، والكون، والعقل، والمعرفة، والمادة الخ… وتطرح أسئلة ما زال الجدل الفلسفي يدور حولها. وهي تعتبر من أهم القصائد الفلسفية، التي إلى يومنا هذا لم يُمَط عنها اللثام، فيستطيع القارئ العربي التمتع بقراءتها. يقول في مطلعها:

لك الأمان أيها الشاب

يا من أنت بك الحور المخلدات

وأقلتك الخيول العاديات إلى مستقري

إني أنبئك بكل شيء

بقلب الحقيقة المستدير الصامد

وباطل معتقدات البشر الفانين

يستخدم الشاعر أسامة خليل في قصائده الترميز، وعلى القارئ أن يقرأ القصيدة، وما وراء القصيدة الكامن في تعابيرها وصورها، التي ينقل للقارئ من خلالها أجواء مصر التي عرفها وعاشها هو في خمسينات، وستينات القرن الماضي، عندما كانت كل الآذان في بلاد العروبة، تنتظر خلف المذياع (الراديو)، لتستمع إلى تلك الجملة السحرية:

  • هنا القاهرة…!

فتنطلق أروحهم في تطواف وسفر، نحو البعيد، والمستقبل، في أحلام لا تعرف الحدود، كالطيور المغردة في السماء… صور من أزمان وعصور، تبدأ من عهد مينا الذي وحد مصر، إلى ثورة 23 يوليو، مرورا بكل الأحداث التي مرت بها، وبوطننا العربي.

بحلم بعين الخليل وبحوره غامرة فؤادي

ومن حروف الفارابي بكتب صحايف كتابي

ما هو اللي فاتوا وعدوا وسلمونا الأمانة

عايشين معانا وفينا وهواهم هوانا

وكل حبة محبة على الأرض مالت سقوها

والساقية تروي التقاوي وتعيد رواية الحكاوي

بحلم بعين الخليل وبحوره غامرة فؤادي

ومن حروف الفارابي بكتب صحايف كتابي

تطواف ما بين التاريخ والواقع، في ثنائية جميلة تنعش القلوب والذاكرة، يحدثنا في أبياته السابقة عن أول قاموس في اللغة العربية وضعه الخليل بن أحمد الفراهيدي « كتاب العين ». ووَضْعِه أيضا لقواعد الشعر العربي « البحور »، جاعلا لها زحافات وعلل. وعن كتاب للفارابي « كتاب الحروف ». مع توقف عند كل الفلاسفة والمفكرين الذين سبقونا « اللي فاتوا ». متحدثا عن دور الإنسان المفكر، وواجباته في إكمال الطريق « وعَدُّوا وسلمونا الأمانة ». مشيرا بعدها إلى أغنية عبد الحليم حافظ « الهوى هوايا »، التي تحوي بعضا من ذكرياته، وذكريات جيله. لينقلنا إلى مصر بأرضها وفلاحيها، وأجواء الأصالة فيها، وحب الأرض من خلال كلمة « تقاوي ». وهي كلمة مصرية قديمة تعني « البذور »، أراد من خلالها الإشارة إلى الفكر الذي يُبْذر في العقول، ومن ثم سقايته بالتعب في شحذ العقول الخ… 

وفي سداسيته “« أصل الهوى غلاب »، التي ترتقي في مرجعيتها إلى قصيدة للشاعر الراحل محمود بيرم التونسي، وغنتها كوكب الشرق الست أم كلثوم. أتت عباراتها كأجوبة يرد من خلالها على التساؤلات الواردة في قصيدة بيرم، وذلك في أسلوب أشبه ما يكون بالمعارضات الشعرية في الشعر العمودي، مستخدما كثيرا من ألفاظها ونفس قافيتها:

مكتوب في كل كتاب ما بين سؤال وجواب

صادق ولو كذاب القلب له أسباب

أصل الهوى غلاب أصل الهوى غلاب

دقيت على الأبواب رضوان فتح لي الباب

ما بقاش بينا حجاب اسقيني أصل العذاب

أصل الهوى غلاب أصل الهوى غلاب

وقد أرفق بعض قصائده بلوحات من رسمه، وأخرى من تركيبه على طريقة الفوتوشوب. أتت مفسرة، أو متناسبة مع موضوع القصائد. فشكلت إضافة جديدة للديوان. وهي صور مستوحاة من يوميات مصر الإنسانية، وتاريخها، وحضارتها الفرعونية، التي يعتبرها من خلال بعض نصوصه بالفرنسية أساسا في الحضارة البشرية، ومنهلا مهما لكثير من المفكرين عبر العصور. متوقفا عند فكرة التوحيد، والخلق، والحياة، والموت، عندهم. واصلا مرحلة ما قبل الأديان السماوية، بما تلاها كما في قصيدته « أصل الكلام ». بانيا فكرته على ما ورد في الكتاب المقدس « في البدء كانت الكلمة » فيقول:

دنيا بارئها ربنا قال كن فكان

بحر وهوا وأرض وسما

لما ابتدى

بين نور ونار

بدأ الزمان يطوي المكان بالكلمة

أصل الكون كلام…

إن كنت إنت أو أنا

راح نعمل إيه من غير كلام

أصل الوجود بيته الكلام

مكتوب على جبين اللي كاين واللي كان

أصل الوجود بيته الكلام

***

إن كنت إنت أو أنا

راح نعمل إيه من غير كلام

أصل الوجود بيته الكلام

مكتوب على جبين اللي كاين واللي كان

أصل الوجود بيته الكلام

وإذا كانت مصر الماضي، حاضرة في ترانيم شعره، وتعابيره بقوة، فإن مصر الحاضر، وثورة يناير، وكل ما تلا ذلك من أحداث، حاضرة أيضا. وعلى القارئ أن يمعن النظر في قراءته لبعض الفقرات، ليدرك المعنى البعيد الذي حوته. ففي مقطوعته «لو كان بإيدي »،  يجد فيها العاشق نص رسالة من الممكن لأي محبوب أن يقدمها لحبيبته، ويجد فيها المناضل المحب لمصر أيضا كثيرا مما يعبر عن مكنوناته، بعد خيبة الأمل التي ألمت بكل شباب مصر، بسبب القمع المفجع، والأحداث الدامية التي تلت، وأعقبت ثورة يناير المجيدة.

لو كان بإيدي أمسك إديكي، وأمسح عينيكي

من كل دمعة أو شبه دمعة تضوي فـ عينيكي

إن كان عليَّ، قلبي فـ إديّه، والكلمه ديّه، باينه في عينيه

مليون وميه، وكمان شويّه

لو كان عليّ، قلبي وعنيه، والدنيا ديّه، وأنا بين إيديك

ويتجلى في معظم قصائد الديوان، بوح خاص عن مكنونات، ولوعة من قصص حب، ما زالت تضطرم بين أضلع الشاعر، لم تستطع الأيام أن تنقلها إلى محطات عوالم النسيان. فينقل للقراء تجربته الخاصة، لنتعرف على كثير من صندوق أسراره، بقالب جد مكثف، عبر تلميحات وتلويحات. تاركا كل واحد يكتب تفاصيل قصصه هو بأسلوبه الخاص، بعدما زوده بالعناوين التي لا يختلف معه فيها أحد. وهو في كل ذلك ينهل من مدرسة بيرم التونسي، والخال الأبنودي، وجاهين، وآخرين من شعراء العامية المصرية. ويتضح ما نشير إليه جليا في قصيدته التي يحاكي فيها أو يشير من خلالها إلى كلمات المرحوم صلاح جاهين في قصيدته «المسؤولية »، فيقول: 

يا نفسي إيه أقولك إيه عن إيه وليه ولحد إمتى…؟

الحب كلمة من حرفين

فتحة وضامَّة ما بين ضميرين

تخلي قمر الليل قمرين

لكن فـ حبك يا غنية

كسرة وشدَّة وقضية

الكلمة دي غالية عليَّ

الكلمة دي جوى عنية

يا نفسي إيه أقولك إيه عن إيه وليه ولحد إمتى…؟

وفي الختام فإن هذا الديوان بمجمله من طراز السهل الممتنع، الذي تسهل قراءته. ولكن يصعب الغوص في أغواره، وخصوصا بالنسبة للذين لا يتابعون الأحداث في بلادنا وتطورها. فكل فقرة، أو مقطوعة في هذا الديوان، تحتاج إلى أكثر من قراءة، وإلى فتح ستارة مسرح الحياة والسياسة، وأبواب مجتمعاتنا، لفهم ما وراء الكلمات.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com