الرباط – قريش:
تنظم مؤسسة “مقاربات” احتفالية بمدينة فاس المغربية، يوم السبت 21 دجنبر/ كانون الأول الجاري، لتقديم الكتاب الصادر ضمن منشورات المؤسسة المذكورة، مذكرات “المغرب بعيون عراقية” للكاتب العراقي المقيم بكندا رحمان خضير عباس.
وفي هذا الصدد، يشارك في هذا اللقاء العلمي الذي يعقد بشراكة مع المديرية الجهوية لوزارة الثقافة والشباب والرياضة – قطاع الثقافة- وبتعاون مع حلقة الفكر المغربي، ثلة من الأكاديميين والباحثين بعدد من المداخلات والدراسات النقدية، وهم د. عبدالرحمان النوايتي، د. سعيد ساسيوي، ذة. فاطمة الزهراء الزولاتي، نصر الدين شردال.
ويذكر في هذا الاطار، أن مؤسسة “مقاربات” تعد من أرقى المؤسسات الثقافية بالمغرب، والتي راكمت عدد مهم في السنوات الأخيرة من الاصدارات الأدبية والابداعية والفكرية المرموقة والتي تعتبر قيمة مضافة للثقافة العربية، اعتبارا للمصداقية والقيمة التي صارت تحظى بها ضمن كبريات المؤسسات.
ويشار أن هذه المؤسسة يرأسها الأديب الأستاذ الجامعي بجامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس، الدكتور جمال بوطيب الذي يشغل منصب المدير التنفيذي لحلقة الفكر المغربي.
وسيعرف هذا اللقاء الذي سيحضره مهتمون وباحثون مهتمون بأدب الرحلات ، حفل توقيع الكتاب.
نقرأ من تقديم مؤلف مذكرات الكاتب العراقي المقيم بكندا رحمان خضير عباس، مايلي:
في أواخر سبعينات القرن الماضي ، حللنا في المغرب ، وكناّ مجموعة غير متجانسة من العراقيين.
الصدفة وحدها التي جمعتنا. فلم نكن قد خططنا لذلك مسبقا. سوى أنّ أكثرنا كان هاربا من قفص حديدي كبير ، اسمه الوطن.
ولحسن الحظ، كانت المدارس المغربية – آنذاك – بحاجة إلى مدرسين في مختلف الاختصاصات، لسد النقص في الملاكات. لذلك فقد استوعبت وزارة التربية المغربية طلباتنا للعمل في التعليم الثانوي. وهكذا توزعنا على المدن المغربية المختلفة . والطريف في الأمر : كنٌا نجتمع في العطل السنوية ، فنستفسر عن بعضنا ، ونطلق اسم المدينة ككُنية للشخص المقيم فيها . فنقول مثلا : هادي القصر ، نسبة إلى القصر ، وعادل طنجة ، وساجد فاس ، وكاظم تازة ، وجواد آسفي .. الخ من المدن الأخرى.
كنّا متوجسين من حقيقة وجودنا في المغرب. تنتابنا مشاعر متضاربة ،بأننا نَمرُّ بمرحلة طارئة ، حتى أننا ترددنا كثيرا في شراء مستلزمات السكن والعيش من أثاث وغيرها ، واكتفينا بالضروري فقط . وكأننا في حالة من السياحة والسفر. متلهفين لسماع أخبار الوطن ، الذي غادرناه ،ولكنه لم يغادرْنا .
لكن الحياة المغربية ، ببساطتها وهدوئها ، قد سمّرتنا على أبوابها. فاقتنعنا بأنها ليست مجرد محطة انتظار. وإنما ملاذ بديل، سرعان ما تحوّل إلى عنصر حياتي ، تناسينا به همومنا ، وإمكانية العودة إلى الوطن الأوّل.
شيئاً فشيئا ، تناغم أكثرنا مع الواقع المغربي ، الذي انتشينا بعطره ، وتسللنا إلى عمق الحياة فيه ، وتشبعنا بعاداته وتقاليده
كان المغاربة أقرب إلينا من دول تجاورنا . وكأنها عملية الجذب بين قطبين متباعدين.
لأنّ العراق في أقصى الشرق ، والمغرب في أقصى الغرب.
ومع ذلك فقد لمسنا أشكالا من التعاطف والاحترام ، من قِبٓل أغلب شرائح المجتمع.
حالما يُذكر العراق أمام المغاربة ، حتى تنهمر الذاكرة الجمعية لهم . فيتحدثون عن أصالة العراق ، عن شعره وأدبه ، وعن عصوره الذهبية . يتحدثون عن التمر والنهر والحضارة وأشياء أخرى تُشبع فينا الألفة التي نفتقدها في بلدان أخرى. أحيانا نحاول أنْ نتحدث لهم عن التراجع الكبير الذي شهده العراق. ولكنّ مخيالهم الجمعي يرفض ذلك ، ويبقى متشبثا بالعراق المتألق الذي سيتجاوز المِحنة.
إنه شعور جميل ، ألفناهُ وتعوّدنا عليه .
المغربي يعرف عن بلدك أكثر منك . يتحدثون لنا عن مرقد الإمام عبد القادر الجيلالي في بغداد ، كما يتحدثون عن الجواهري والسيّاب ومظفر النوّاب. يذكرون لنا المجلات الأدبية التي تأتي من العراق ، رخيصة في ثمنها وغنية في محتواها ، يحفظون أغاني ناظم الغزالي.
كان للمغرب الفضل في تطمين قلقنا، وذلك بإسعافنا بالمحبة والمودة، وجعلنا أكثر قابليةً للاستقرار.
وهكذا طالت إقامتنا في المغرب ، مُثقلين بوضع عائلي. فقد تزوج أغلبنا من مواطنات البلد ولكن الصدمة التي واجهتنا ، وهي أنّ أطفالنا لا يكتسبون الجنسية المغربية. حسب القوانين المرعية في الثمانينات من القرن الماضي. لذلك فكر أكثرنا بالهجرة الى اوربا أو أمريكا الشمالية.
ولم يبق في المغرب ، إلا القليل من العراقيين ،الذين اندمجوا في المجتمع المغربي اندماجا كاملا. أما نحن الذين هاجرنا إلى الغرب ، فقد أضحى المغرب وطنا بديلا ، حينما أوصدت أبواب العراق.
لذا كنّا نزوره بين الفينة والاخرى. نتفقد المدن التي هجرناها والبيوت التي سكنّاها، وكأننا نتلمس أطلال الماضي ،مندهشين ومبهورين بهذا البلد، وكأننا نراهُ للمرة الاولى.
وهذا الكتاب:
مجموعة من الانطباعات والمشاهدات، والتي تشكّل عصارة تجربتي الشخصية في المغرب . حيث عشتُ فيه عقدا من الزمن من أواخر السبعينات الى أواخر الثمانينات. وأصبحتُ مغرما بالتردد عليه . تمخض ذلك عن الكثير من الملاحظات التي دونتها عبر صفحتي في الفيس بك.
وقد ارتأيتُ جمعها، لكثرتها وتنوعها.
ملاحظات عن المشهد الحياتي اليومي، ببهاءه وعُتمته ، بثرائه وفقره.
المغرب الهائل والمتنوع والعميق.
كانت مشاهداتي تأخذ طابعا تأمليا ، وكأنني أرى المشهد عبر شرفة العمر الذي انفرطت حبّاته ، في زوايا هذا العالم المكتض بالمتناقضات.
تحدثتُ عن المدن التي مررتُ بها ، أو عشتُ بين جنباتها . عن روحها ونبضها ، ودبيب الحياة فيها.
الناس الذين يشكلون نسغ المغرب وجذوره وتاريخه.
تحدثت عن الأسوار التي تطوّق أعناق المدن كالقلائد ، وكأنها مخطوطات نادرة تسجل تاريخ المدن ، وطبيعة ملامحها التي صمدت أمام العصور والأزمنة . عن الدروب الضيقة والشوارع الفارهة. عن الحداثة والموروث.
عن الأزياء التقليدية والأعراف والولائم والحفلات المختلفة.
عن التقاليد بجمالها وقبحها ، عن المائدة المغربية ، وما يحيط بها من تقاليد صارمة ، توارثها الناس والتزموا بها .
تحدثتُ عن البيئة بأشجارها، وأنهارها ، وبحرها ، ومرتفعاتها التي تتحدى الغمام ؛ حتى ينحني لهاماتها السامقة.
تحدثت عن المقاهي المغربية، بوصفها ظاهرة تتفرد بها المغرب. ومجالاتها وطاقاتها وحضورها في الحياة الاجتماعية.
تناولتُ الصالونات الأدبية في المغرب. طبيعتها وتأثيراتها.
تحدثت عن الإنسان المغربي، فنانا وقاصا ومُبدعا وشاعرا وعاملا وكادحا.
تحدثت عن المشهد الثقافي الذي انطفأ ، وعن المشهد الذي يتوهج.
عن جان جينيه، أكبر أدباء فرنسا الذي اختار أنْ تكون مدينة العرائش مدينته الأبدية التي تضمُّ مثواه الأخير عن بول بولز الذي عشق طنجة.
تناولتُ الظواهر الاجتماعية الحادة. والتي هي إفراز للتطور.
تحدثتُ عن بعض المدن:
مراكش العصية على الوصف. تارودانت التي تختبئ تحت أسوارها. عن وجدة البهية ذات المساجد والذكريات. عن تازة التاريخ والذكريات الحزينة.
عن فاس والرباط وطنجة وأگادير وشفشاون والعرائش.
تحدثتُ عن الندوات الادبية والفنية ، عن المهرجانات الكثيرة التي تحتضنها المدن المغربية .
قبل كل شيء، تحدثت عن الأصدقاء في توهجهم وتألقهم وبؤسهم وفشلهم. عن الشرائح الاجتماعية التي تعايشت مع الواقع ، بحلوه ومرٌه.
إنّه المغرب بعيون عراقية.
ليست بعيوني فقط، و إنّما بعيون عراقيين عاشوا وماتوا في هذا البلد. او مروا به ، أو هاجروا منه .
إنّه المغرب بكل ثقله الحضاري ، الذي يمتد إلى البدايات الموغلة في القدم
عذراً التعليقات مغلقة