الثعالب قصّة قصيرة للروائي المصري عبدالعزيز دياب

8 ديسمبر 2019
الثعالب قصّة قصيرة للروائي المصري عبدالعزيز دياب

الثعالب

عبدالعزيز دياب

عبدالعزيز دياب

روائي مصري

   لم تكن الشقة لتربية الثعالب: ثلاث حجرات، وصالة، ومطبخ، وحمام، وشرفة لا تصلح لمهمة ثقيلة كهذه، إنما الجدران لتمرح عليها ثعالب في مروج وبرارٍ موحشة، مفعمة بتضاريس شرسة، داخل أطُرْ مُذَهَّبَة ومُفَضَّضَة، يأتي بها الزوج المغرم بمكرها من معارض ومحلات أنتيكات، وإذا شحت من السوق يكلف رَسَّامين باستحضار نظرتها الغامضة.

   ازدحمت الشقة بالثعالب وبدأت المرأة معها عهدًا جديدًا…

   في أول الليل يخرج الرجل الذي أسْكَنَ الشقة بكل هذه الثعالب، تستهلك المرأة فراغها في قراءة المجلات ومشاهدة التلفاز، يمضي بها الوقت حتى يقذفها في مساحة ضيقة أو واسعة ما بين النوم واليقظة، هي المساحة التي تنتظرها الثعالب، تعرف بما أوتيت من مكر كيف تتسلل إليها على هيئة فريق موسيقى بالبِدَلْ والببيونات يعزفون موسيقى غربية خالصة، ينمحي ذلك المشهد ويحط ثعلب في زي غجري يقرأ الفنجان لفتاة تشبهها عندما كانت في شبابها، ينمحي ذلك المشهد ويباغتها ثعلب آخر يقود موتوسيكل بسرعة قياسية…

   صارت الثعالب تهاجمها على هيئة لقطات سريعة متلاحقة، يركض وراءها وعى المرأة ونظرتها الغائمة، آخرها كان مشهد لثعلب تمدد فوق طاولة في الصالة، يحدق ناحيتها بعينين ماكرتين.

   إذا ثعلب على الطاولة في صالة الشقة!

   ليس ذلك المشهد فقط، بل وقنوات ماء تفيض عن حاجتها فتغرق الشقة، فلا تستطيع العبور من حجرة النوم إلى المطبخ، أو من المطبخ إلى الصالة، لكن السمك كان يتلعبط أمامها في الأرض الموحلة مع فيضان الماء…

   وشجر سامق وطير من كل صنف، فتتذكر أنها في يوم شديد الحرارة ولم تكن المظلة بحوزتها فتلقفها ظل الشجر، استطاعت لحظتها وهي غارقة في الظلال الطرية أن تفك صرة الطعام لتأكل وتطعم الطير معها…

   أما الثعالب التي تركض من الصالة إلى المطبخ، ومن المطبخ إلى حجرة النوم، ومن حجرة النوم إلى الشرفات، فكانت فوق احتمالها، فماذا لو تجاوزت ذلك الأمر لتنهض فَزِعَةً وأحدهم يلعق حلمة ثديها، هل يطعنها الزوج في شرفها لو أخبرته بذلك؟!

   حدثت المرأة نفسها بأنه قد جاء وقت الحاجة إليك يا “كَسّاب”، ببندقيتك الأسترالي..

   “كَسّاب” عفريت الليل كما يطلقون عليه، توددت إليه أخته، يمكنك أن تلبد يا “كَسّاب” في الصالة وراء شجرة “الدفلى” وتصطاد ذلك الثعلب الذي يتمطع فوق كرسي الأنتريه، كذلك يمكنك أن تنبطح هنا عند باب الشرفة مستترًا بالحشائش لتصيد الثعلب الذى يجول في الصالة، وهنا في حجرة النوم تصرف أنت لتقتل ذلك الذى ينام فوق سريري، ولن أبوح بأنني كلما نهضت من نومى وجدته يمص حلمة ثديي فأغتسل في مجرى الماء الذى يشق حجرتي.

   ابتسم كساب قال بصوته المشروخ: أنا وحدي من أحدد متى وكيف أطلق الرصاص!!

   كانت المرأة تقول لزوجها: لماذا الثعالب يا زوجي؟!

   يضحك الزوج: هل يحق لي أن أسألك لماذا تحبين المانجو، أو يسألك أحد لماذا- ويشير إلى نفسه- زوجك هذا؟!

   كان الزوج يحب الثعالب في جميع الأوضاع: وهى تأكل… وهى تشرب… وهى تلعب… وهى تمارس مكرها، فكان يأتي بها يعلق لوحاتها في الصالة، والحجرات، والمطبخ، ومدخل الشقة، والشرفات، تجلس المرأة أمامها في الصالة، تذهب إلى المنطقة التي تكون فيها ما بين النوم واليقظة، لم تدخل بعد إلى مراتع أحلامها، ترى نفسها على ظهر ثعلب يركض بها إلى مكان عملها بمدرسة “16 مارس الثانوية”، تؤدى ثلاث حصص لمادة الجغرافيا، تشرح للطلاب الكسالى عن الثعالب التي تعيش على حافة مجرى مائي، يحفه الشجر داخل شقة مكونة من ثلاث حجرات وصالة ومطبخ وشرفة، تنتهى من عملها، تطلق صفيرها فيأتي الثعلب، يحط أمامها، تمطيه ويركض بها عائدًا إلى شقتها، وترى نفسها في حالة أخرى بين أحضان ثعلب يراقصها في حفل موسيقى صاخب، وهى تشرب نخبه كؤوس خمر وسط تصفيق الحضور وتوهج المزيكا إعجابًا بها وبثعلبها.. 

   هي تعرف أنها لو أخبرت زوجها بذلك لرمى عليها يمين الطلاق.

انتشلها “كساب” قبل أن تذهب رؤاها مع الثعالب بعيدًا، قال: ابتعدوا لأنني سأطلق الآن الرصاص.

بو…. بم

بم…. بم

بو…..

تهشم زجاج كثير للوحات كانت تحملها الجدران… ماتت كل الثعالب، لكن كيف أتى هذا الثعلب الذي تمدد على طاولة وهو يحدق إلى المرأة بعينين ماكرتين؟

قصة خاصة لصحيفة قريش – ملحق آداب وثقافات – لندن

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com