إستراتيجية الإقناع والسخرية في القصيدة الزجلية المغربية المعاصرة:

14 أبريل 2020
إستراتيجية الإقناع والسخرية في القصيدة الزجلية المغربية المعاصرة:

رسالة مفتوحة للزجال بوعزة الصنعاوي  نموذجا

إسماعيل علالي

شاعر وناقد من المغرب

)السخريةُ دليل على الكرامة(

أمبيرطو إيكو

لا يختلف اثنان على أن القصيدة الزجلية المغربية واقع جمالي لا يمكن تجاوزه،  أو إلغاؤه بالنسبة لكل من رام النظر في مورفولوجيا الشعرية المغربية و تحولاتها، أو رام الحفر في جينيالوجيا الكتابة الإبداعية بالمغرب عامة.

كما لا يخفى  أن للكتابة  الزجلية بالمغرب ، مدارسها، وأعلامها ، ونقادها المتخصصون من  عميد الأدب المغربي عباس الجراري الذي فتح باب نقد التجربة الزجلية على مصراعيه من خلال أطروحته المعقودة للزجل المغربي،  إلى رئيس بيت الشعر مراد القادري الذي تسلم مشعل النقد الزجلي –بمعية آخرين- وطور أدواته النقدية وفق أفق قرائي  حداثي مغاير  يليق بالألبسة التركيبية والدلالية والتداولية والرؤيوية التي تسربلت بها القصيدة الزجلية المغربية الحديثة. 

وتجدر الإشارة إلى أن ما يثير اهتمامنا في هذه المقالة الموجزة، ليس تاريخ الكتابة الزجلية،             وخصائصها ، وأعلامها، أو بمعنى آخر كلياتها الجمالية،  بل ملمح من ملامح تكوثراتها الجمالية، وسمناه بـــ” إستراتيجيات الإقناع في القصيدة الزجلية المغربية” هذا الملمح الذي اخترنا أن نمثل له بنموذج نصي لأبرز شعراء القصيدة الزجلية الساخرة بالمغرب، وفارسها –بتعبير الناقد مراد القادري-   الشاعر بوعزة الصنعاوي، الذي طارت شهرة قصائده الزجلية  الساخرة  في  المهرجانات والنوادي الأدبية  و في كل الوسائط الرقمية.

و من قصائد شاعرنا التي تزدوج فيها السخرية بالإقناع اخترنا  قصيدة ” رسالة مفتوحة…” نوردها كاملة  قبل بيان  خططها الإقناعية الظاهرة و المطوية في بنيتها النصية:

)…سمح لي يا شاعر الفصحى الكبير

ايلا انا كتبت بالضحك

را الضحك عادتي فالتعبير .

حيث ملي ضحكت لي لقصيدة


كرهت أنا لبكا


بغيت الفرح فكتابتي يزكا


ونخرج من ظلمت هاذ البير .

انا عارف ما اناش ندك

.
حيث انا مسكين


ما قاريش قدك .

انت لكتبتي ونشرتي


نشرتي وتنشرتي


حثى صارت


قصايدك كارمة گديد .

قلنا لك الانشاد مقامنا


ولحمى فيه الحال يزيد .

حسبتي راسك عريس


وحنا فباب لقصيدة عبيد .

لكن نقولك بالهمس


انت شاعر جاي م الامس


عليك الساحة تكرفت .

قصايدك خرفت.

ولغتك
من كثرت لكتابة شرفت .

وما بقى فيها طعم لديد .

اما كلامي


يبلغ لك سلامي


ويجيك كل مرة بلباس جديد .

ياااه

شبهتي شعرك بالشتا


را سماك عگرت


والسحابة فيدك سحات.

انا نعقل


شحال ضحكت امي


وعنقتني وفرحات .

ملي شفت فالصدر نهود


وقلت لحبيبتي


هادو جوج تفاحات .

فهم انت المجاز


والاستعارة والانزياحات .

ياااه

عيتينا بالحنين


والكتابة ع لقصب والربابة .

انا قلت لك السياسة


لعب لقيوش


بين لهيوش


ولاحزاب
تلعب معانا غميضة وحابة .

كتبت على الدياب لحرزو غابة


كتبت ع المنجل لحش صابة


عرفتك حرامي

ومحزم باربعين على بابا .

هاز فالمحرك كلخة

وتتبورد
على خيول من الضبابة .

عفاك لما قرأ كيليطو

واش كتب فالادب والغرابة (.- انتهى النص-

إن  أول ما يلفت الناظر  بعد قراءة  هذا النص الزجلي الممتع،خاصيتان : خاصية شكلية، و خاصية تداولية.

أ* الخاصية الشكلية:  نقصد بها الصياغة الهندسية  للدال التي انتهجها الشاعر بوعزة الصنعاوي في تشكيل جسد القصيدة ، حيث نلمح  اعتماده على تقنية التدرج النصي، تركيبيا وأسلوبيا ، حيث استهلها بصيغة يتفمصل فيها الأمر بالنداء  )سمح لي يا شاعر الفصحى الكبير/ايلا انا كتبت بالضحك/را الضحك عادتي فالتعبير( ،و قفاها مدلوليا  بمشهدية تصويرية  متنامية، ممتدة من : )حيث ملي ضحكت لي لقصيدة(…إلى )فهم انت المجاز/والاستعارة والانزياحات( .، وقفلها بتعال نصي ساخر)عفاك لما قرأ كيليطو/ واش كتب فالادب والغرابة(استدعى فيه أصواتا أخرى  ليترك الأثر المعنوي للقفلة الشكلية مفتوحا على أكثر من تأويل.

ولا يخفى أن  هذا التوليف النصي التدرجي الشكلي أملاه  الحرص  على محاكاة بنية الكتابة التراسلية الحجاجية التي طرفاها المخاطِب و المُخاطَب.

ب* الخاصية التداولية: وتتجلى من خلال  التكوثر المقصدي للنص حيث ازدوجت فيه مقصديتان متكاملتان: مقصدية السخرية، ومقصدية الإقناع و التغيير)تغيير رؤية/ موقف( فضلا عن مراعاة الاعتبار التواصلي الذي أفرز حوارية  شعرية عالمة قوامها التصوير المشهدي المتنامي تناميا إيقاعيا تزدوج فيه بلاغة السخرية ببلاغة الإقناع ، و بموجب البلاغتين  أقام  الشاعر بوعزة الصنعاوي خطابه السجالي مع خصم ينازعه في اختياراته الجمالية.

و نجمل الإستراتيجيات الإقناعية المطوية في بنية القصيدة الصنعاوية الزجلية الساخرة، في

إستراتيجيتين موسعتين  هما:

1-   إستراتيجية الإضمار: وتتجلى من خلال إضمار زجالنا  لسجال قبلي مع شاعر الفصحى الذي رد عليه زجالنا عبر السخرية من نموذجه و مرجعيته الشعرية )لكن نقولك بالهمس/انت شاعر جاي م الامس/عليك الساحة تكرفت/.قصايدك خرفت /ولغتك/من كثرت لكتابة شرفت /وما بقى فيها طعم لديد( .

وتحيل على إضمارية خطاب سابق مجموعة من القرائن في طليعتها نقط الحذف التي صدر ت بها أسطره الاستهلالية، ثم الجملة الطلبية التي تظهر  بنيتها الأسلوبية تقديرا وتضمر بنيتها السياقية  سخرية و قطيعة رؤيوية  )… سمح لي يا شاعر الفصحى الكبير( و الجملة الشرطية) ايلا انا كتبت بالضحك/را الضحك عادتي فالتعبير( ، و لا يخفى أن هذه الصيغة الشرطية  خير دليل على إضمارية قول سابق تلفظ به المقول له، فهي هنا بمثابة جواب عن سؤال محذوف تقديره ” لماذا كتب بهذه الصيغة الساخرة/ أو لماذا كتبت الشعر بالعامية لا الفصحى”، وهلم صيغا استفهامية مضمرة،  ردها الشاعر بوعزة باعتماد صيغة شرطية ” را الضحك عادتي في التعبير”، باعتبارها أبلغ صيغة في الدارجة للتدليل على الأسئلة المضمرة.

2-   إستراتيجية الإظهار: وتتجلى من خلال التصوير  المشهدي  المتنامي الساخر  الذي بسط/ عرض فيه زجالنا جميع الحجج الإقناعية الكفيلة بإفحام الخصم المخاطَب ، بأساليب إقناعية مغلفة بسخرية ثلاثية الأبعاد:  سخرية من  ذات المقول له” الشاعر الكبير/ أنت شاعر جاي من الأمس”، وسخرية من  قصيدته/ تجربته ” قصايدك خرفت”، وسخرية من لغة الكتابة “ولغتك/ من كثرت لكتابة شرفت / .وما بقى فيها طعم لديد “،  ومن الآليات الإقناعية التي توسل بها الشاعر الزجال في قصيدته الساخرة، آلية النفي و الإثبات” ما بقى فيها طعم لديد/ أما كلامي/ يجيك كل مرة في لبس جديد”، و آلية المقارنة ” حسبتي راسك عريس/

وحنا فباب لقصيدة عبيد”،  و آلية المقابلة ” بلاغة العامية/ بلاغة الفصحى” ، وآلية القلب” شبهتي شعرك بالشتا/را سماك عگرت”، و آلية الاستدعاء من خلال استدعاء بعيد يتمثل في استدعاء قصة علي بابا و الأربعين حرامي” عرفتك حرامي/ و محزم باربعين على بابا” و استدعاء قريب يتمثل في استدعاء كيليطو ” عفاك لما قرأ كيليطو/واش كتب فالادب والغرابة”، و تجدر الإشارة إلى أن  استدعاء أصوات تنتمي للثقافة  التي ينتسب لها المخاطَب)شاعر الفصحى(  قُصِدَ به، من جهة أولى الانتقاص  من تعصب الشاعر لخطابه الفصيح و إثبات جهله بالثقافة التي ينتسب لها، و من جهة أخرى إثبات انتصار الشاعر الزجال، و اتساع مداركه و تنوع مقروءاته، باعتباره قارئا منفتحا على كل ما تقع عليه عينه، لا قارئا متعصبا يلغي حق الآخرين في التعبير.

و من الآليات الأسلوبية الإقناعية نجد أيضا الشرط ” ملي ضحكت لي لقصيدة/ كرهت أنا لبكا” ، و كذا   الأساليب الإنشائية، التي  أدت فيها الأساليب  الطلبية، من قبيل  الأمر )فهم أنت المجاز(  والاستفهام) واش كتب في الأدب ؟(  والنداء) ياشاعر لفصحى لكبير( ، و التمني) بغيت الفرح فكتابتي يزكا(، وظيفة الإقناع، و الأساليب غير الإنشائية من قبيل المدح و الذم)  أنت شاعر كبير(، والتعجب)ياااه/عيتينا بالحنين/والكتابة ع لقصب والربابة(،  و الرجاء) عفاك لما قرأ  (  أدت وظيفة السخرية، من خلال ثورة الزجال الصنعاوي على الحقيقة اللغوية لهذه الأساليب في الأصل الوضعي، وقلب وظائفها، وتوسيعها بما يخدم مقاصد خطاب الرد  الساخر الذي ينتصر له الشاعر الزجال بوعزة الصنعاوي في تجربته الزجلية.

وعلى الإجمال، فإن قصيدة” رسالة مفتوحة” للشاعر الزجال بوعزة الصنعاوي خير نموذج على حجاجية القصيدة الزجلية الساخرة ، و  امتلائها  البنائي، إن أسلوبا، أو تصويرا، أو رؤيا، فضلا عن تحطيمها لكل المسلمات و اليقينيات القولية، وسخريتها من اللغة  المعيارية، وتحديها من خلال ابتكار  إستراتيجيات جديدة في الأداء القولي  تزدوج فيها الدهشة باللذة ، التي لا يسع المتلقي الحصيف إلا أن يقف أمامها مشدوها منبهرا.

*عن الهوامش:

بما أن السخرية تتعدى على اللغة ، اخترنا أن نتعدى على الهوامش و نتعداها، مادامت متون الزجل و نقده، و نظريات تحليل الخطاب في متناول الجميع،  و لأننا نفترض قارئا واعيا بمقدوره تفكيك مقالنا و استكناه نظريات التحليل التي وجهت صاحبه، و عمق محصوله، أو كساد بضاعته.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com