- هولندا – فينوس فائق
قبل هذا الوباء ،لم أشعر بثقل الوقت على كاهلي. مع هذا الوباء وقضائي جلّ وقتي في البيت صرت أكره الوقت. أمّا قبل زمن الوباء، فلو كان هناك أي قانون يعاقب على سرقة الوقت، لكنت أنا من أكثر المطلوبين للعدالة، و لو كان هناك قانون يعاقب كلّ مَن تسوّل له نفسه و يضيع الوقت في هوايات تافهة، لكنت أنا أول مَن ستنزل عليه أقسى عقوبة الآن..
فكم فكرت فيما مضى في إبتكار وسيلة لوقف سرعة الوقت، رغم أنني كنت أقضيه في أشياء قد تبدو للبعض مفيدة أو نافعة.. شغفي في قراءة الروايات كان يدفعني بإستمرار إلى سرقة الوقت كي أتابع بطلاً ما و هو يتسكع بين دهاليز رواية ..
الآن و كأن شيئاً توقف، لكثرة ما لدي من الوقت فبتّ أترك أبطال الروايات التي أركنها على الطاولة أملا في أن أقرأها، غير أن كثرة الوقت سمح بالملل يتسرب إلى جسدي، فصرت أقرأ و أنا أفتقد شعوري باللذة بسرقة الوقت لكي أنهي قراءة الرواية..
أتخيل “الوقت” و هو واقف يضحك عليّ، و أنا أتحايل عليه كي لا يتدفق و يصبح كائنا يخرج عن السيطرة، قبل و بعد الوباء.. قبل الوباء كنت أسرقه، و الآن أقتله.
أن تمتلك الوقت الكثير في زمن تفشي الوباء ولا تتقن فن الإستفادة منه بسبب كائن آخر صار ندا له هو “الملل” لا يختلف كثيراً عن الوقت القليل الذي تمتلكه في زمن ما قبل الوباء، فتجد نفسك طوال النهار تركض من العمل إلى مواعيدك مع موظفي الدوائر العبوسين و أطباء الأسنان أصحاب الضحكة الإصطناعية و طبيب العائلة أوانك تنتهز الفرصة لشرب كوب من القهوة بصحبة أصدقاء تقتل معهم الوقت القليل الذي تسرقه في أحاديث تافهة لا تضيف شيئاً إلى نهارك و لا تجعله متميزا بالقدر الذي تخاطر فيه و أنت تسرق الوقت. فكم تكون المخاطرة بالسرقة لا تساوي قيمة ذلك المسروق .
المشكلة هي أنّ الوقت على قلّته في الأوقات العادية و في الزمن الذي يقع خارج زمن الوباء، تكون أنت سيده و تستمتع بكل لحظة و كل جزيئة لحظية منه.. إلا أنّ الوقت وعلى كثرته في زمن الوباء يكون هو سيدك، يجعل منك كائناً وقع عقله في أعماق معدته، و صار لا يفكر بين جدران المنزل سوى ماذا سيأكل و كيف سيأكل و متى سيأكل … الخ…
قبل الوباء كثيرا ما كنت أفكر في طريقة لإدخار الوقت و تخزينه، أو إمتلاكه أو إعادة إستخدام بعض الأوقات القديمة كما نعود إلى خزاناتنا و نعيد إستخدام بعض من ملابسنا القديمة بين الحين و الآخر.. والآن أفكر في وسيلة توقف نزيف الوقت و إدخاره لوقت الحاجة.. كم هو مقرف حين يفيض الوقت عن الحاجة ونحن جالسون على الأريكة ننتظر قراراً كونيا يسمح لنا بالتسكع على الأزقة و دخول مطاعم الأكلات السريعة و نحن نحتك بالناس و تلامس أكتافنا أكتافهم من دون خوف من كائن لا تراه العين المجردة.
مع بداية الوباء وكأنّي كنت قد وجدت كنزاً، حين عرفت أنه سيكون لدي الكثير من الوقت للقراءة أو لمزاولة هواياتي التافهة، إلا إنني إكتشفت مع الوقت أنهم لم يعلمونا لا في البيت و لا في المدرسة كيف ندير الوقت، كيف نستخدمه الإستخدام الصحيح، و إكتشفت أيضاً أنني كلما زاد الوقت عندي صرت عشوائية بشكل مقرف، أقرأ بشكل عشوائي و في أوقات غير مناسبة، أتناول وجبات طعامي بشكل عشوائي في الأوقات التي من المفروض أن أكون منهمكة فيها بقراءة رواية. أو صرت أنام بينما الأجدر بي أن أزاول بعض الرياضة ليعود الدم يتدفق بشكل أفضل في عروقي و أستعيد نشاطي الذي فقدته بالنوم في وقت القراءة، والأكل في وقت النوم، أو الجلوس أمام التلفاز أتابع مسلسلا تافها ركيكا إخراجا و تمثيلا في الوقت الذي من المفروض أن أكمل كتابة مقالة لأفرغ من شعوري بالملل، أو أذهب إلى السوبرماركت و الرعب يملئني خوفا من العدوى في الوقت الذي من المفروض أن أسقي الزهور و الأشجار في حديقتي التي تحتاج إلى العناية و الماء.. و هكذا..
إننا ببساطة لم نتعلم كيف نصادق الوقت و نستفيد منه و نستخدمه بأشياء ممتعة و في الوقت الخاص به و ليس في أوقات أشياء أخرى..
سابقا ،كنت أستمتع و أنا أسرق الوقت و أصرفه في مزاولة بعض من هواياتي كالقراءة والكتابة و كأنني أنجز مشروعا عظيما للبشرية.. لكن الآن أشعر بالقرف و أنا أمتلك كل ذلك الوقت ولا أعرف أين أصرفه، كمن يمتلك مليارات الدولارات ولا يتقن كيفية إستثمارها لأنه لم يشق من أجلها بل ورثها و في النهاية ينتحر…
آمل أن لا تتبادر إلى ذهني فكرة الإنتحار، فما زال لدي الوقت الكافي لكي أراجع نفسي، ألم يقولوا أنّ الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك؟ لكن لماذا صار الوقت هكذا على كثرته من دون فاعلية ، لم يعد فجأةً حادّاً ليقطعني في زمن هذا الوباء ؟
هل بإمكاننا أن نلملم بعض الوقت و نخزّنه لزمن ما بعد الوباء؟ مَن ذاك الذي قال أنّ الوقت من ذهب؟ ليأتي الآن يرى كيف صار الوقت تراباً لا أول له و لا آخر، و نحن في إنتظار هذا الجرثوم متى ينزاح من حياتنا.
شهادة خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة