ثلاث قصص قصيرة
سناء شڤيبرت
قاصة من فلسطين
مقيمة في ألمانيا
بستان السفرجل
كانت تتأمل بستان السفرجل الممتد أمامها، مثل جثة متروكة للعراء، تنبعث منها رائحة موت لا نهاية له.
جاءت شابةً إلى هذه القرية الوديعة. بعد أن نجت من مجزرة محققة، لتصبح لاجئة داخل وطن لم يعد لها.
تذكرَتْ عرسها، والأهازيج التي كانت تطلقها نساء البلدة في هذا الحقل، ومحاولاتها مواساة فرحة تيتمت مبكرا، وعزلة تلازمها منذ أن أجهضت ذاكرتها صورا ملطخة بالدماء لطفولة تم اقتلاعها قبل اكتمالها.
عاشت سنوات مراهقتها في رعاية عائلة، تقاسمت معها معاناتها، كما يتقاسم الفقراء كفاف يومهم.
أما أملها في العثور على ناجين من أسرتها فقد كان يتضاءل مع انتهاء كل حلقة من برنامج إذاعي أسبوعي، كان يبث رسائل من تهجروا قسرا، يرسلونها عبر الأثير آملين في التقاط إشارات حياة ترشدهم إلى مصائر أحبائهم.
فكرت في السعادة التي غطت ملامحه، وهي تعلن قبولها الارتباط به، ومحاولتهما المستميتة في خلق حياة، وسط موت يسكن بنادق قناصة، وقلوب غرباء جاؤوا كالجراد من العدم ليجهزوا على الأخضر واليابس.
استرجعت ذكريات ذلك الصباح المشؤوم حين ذهبا إلى حقل السفرجل ليجمعا الثمار، ليجدا أن الغربان قد استوطنته بعد أن أجهزت على كل الحمائم فيه.
عادا أدراجهما، ولكن لا شيء عاد كما كان بعد أن نخر الحزن قلبه، فمات تاركا لها وحدتها، وأسئلة كثيرة لا جواب عليها، وعزاء في عدالة ما، تُعوِّض للبشر كل تلك الأعمار الضائعة على الأرض.
ذهبت – يدفعها شيء لم تستطع كشف ماهيته- باتجاه صندوق أشيائها الثمينة، وأخرجت منه ثوب عرسها الذي طرزته بيديها، وبدأت تمشي بخطوات راسخة باتجاه بستانها.
الموتى المجهولون
“التقينا في نوفمبر، الشهر الذي لا يعرف إلى أي موسم يَهِبُ إخلاصه، فتجده تارة يروِّج لشتاء قاسٍ، وتارة يحن إلى خريف مخادع تركه في العراء ورحل”.
هكذا بدأت قصتها، مجيبةً عن سؤال كان يحيرني لسنوات احتاجت إليها للبوح لي بسر ذهابها بين الحين والآخر إلى الغابة القريبة، وبيدها معول صغير، وعودتها بعد ساعات تجر خطوات يسكنها التعب.
أحبته بالرغم من إدمانه المعروف على الكحول، وساعدته في التغلب على تعلقه المَرَضي بزجاجات الخمر، والرجوع إلى مزاولة عمله في تنسيق الحدائق العامة، حيث كان يبيت طوال سنوات ضياعه.
عاشا حياة لم ينتقص من بهجتها عدمُ قدرتها على تحقيق أمنيته في إنجاب أطفال يشبهونها، لتنجح في تحقيق حلمه في أن يُدفَن في قطعة من غابتهما المفضلة، خُصصتْ لمن اختاروا أن تظل أسماؤهم وأماكن رقادهم مجهولةً إلا على أحبائهم.
كانت تزرع ورود “لا تنسَني” بألوانها المختلفة على جوانب المكان، الذي توارى فيه رماده، لتهتدي إليه كلما اجتاحها الحنين للتحدث إليه.
داءُ الوحدة
كانت الوحيدة من بين المسنين في هذا الحي، التي رفضت ترك منزلها والذهاب إلى ملجأ، شيدوه حديثاً للتفاعل مع تزايد أعداد العجائز في تلك المنطقة.
كانت تقوم بسد حاجات يومها بنفسها، وتقضي فترة العصر والمغيب برفقة كلب، يتقاسم معها الحياة منذ عشر سنوات ويعرف كل طقوس يومها وما تبقى لها من أصدقاء.
لم تكن تعرف -عندما قررت الإذعان لإرشادات الحكومة ببقاء المسنين داخل منازلهم، وعدم الاختلاط بأحد والاعتماد على متطوعين لتزويدهم باحتياجاتهم المنزلية- أنها بذلك تدخل عزلة حرمتها من كل مقومات النجاة، وأنها ستفقد رفيقها الذي قامت جمعية الرفق بالحيوان بانتزاعه منها، كي لا يجبرها وجوده على مغادرة البيت.
لم يلاحظ أحد أنها توقفت عن أخذ صندوق الطعام الذي كان يضعه لها المتطوع أمام باب حديقتها، ليكتشفوا فيما بعد أنها قد غادرت عالمنا بهدوء بعد أن قتلتها الوحدة، التي فُرضت عليها حمايةً لها من الجائحة.
قصص خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
للقاصة كتاب باللغتين العربية والالمانية صدر في برلين 2019 ضم عدداً من قصصها بعنوان( لو كانت الارض جميلة لما كان الله في السماء)
Wäre die Erde schön, wäre Gott nicht im Himmel.
عذراً التعليقات مغلقة