قصة قصيرة
الّليالي
أحمد شكر
قاص من المغرب
بعيداً عن خطوط التّماسّ الماحقة مع الشيخوخة، أو ارتقاء ماجن لعتبة الخرف المترصّدة، كلّ ما هنالك أنّ أحلاماً مستقبلية ألحّت عليه بقوة، أحلاما واعدة بحياة أخرى لم يكن بمستطاعه أن يحياها رغم الزخم الّذي عاش به زمنَه حتّى الآن، هو الّذي تقمّصَ ما لا يعدّ من الشخصيات، وخلقَ مصائر، وخبّلَ علاقاتٍ.
قرأ بأكثر من لغة، وفُتن بكتب كثيرة كانت تشكّل أحصنة أبجديتها الّتي لا تقهر أبداً، ومع ذلك ظلّ الكتاب إيّاه يفرض سطوته عليه، لم يملّ قراءته بلغتين مُرحّل إليهما، ظلّ هوس أن يتهجاه بلغته الأصلية، اللغة الّتي صاغت آفاقه وعوالمه اللامتناهية تسكنُ أعماقه بإلحاح، ربّما لذلك كان لهذا الحلم ذلك الحضورُ الزاهي، ذلك التّناغم والاستجابة الضمنية، ربما لحرفة الأدب، الّتي أُغرم بها وجسّدها بكلّ طقوسها، أثرٌ في أن يعتقد في حياة أخرى تنتظره.
بالتأكيد لقراءاته أثرٌ في ذلك وهذه حتمية يؤكّدها إدمانُه على المداد الّذي خسف ببصره وأنعش بصيرته، يستحضر بالضرورة الحلوليّينَ المؤمنينَ بتناسخ الأرواح، وبهذا الزمن الآخر الّذي ينتظره على الطّرف المقابل، ولكنّ حلمه المنتظر يأخذ صيغة مرسومة سلفاً، تتشكّل أمام شاشته الرّمادية بتلك الألوان الفاتحة الّتي صاحبت تخطّره الأوّل، والأثر الّذي تتركه في نفس الطّفل الّذي كانه، تلك الاكتشافات العجيبة لتداخل الألوان وعلاقتها بالأصوات الأولى وبأشعّة الشّمس، وفيما بعد بمسالك الكتاب الّذي أفرد له دائماً حيّزاً مهماً، وحاول مراراً استلهامه في العديد من كتاباته.
هناك دائماً أمور غير قابلة للتصديق لكنها تجسّد مسبقاً ما قد يتحقّق لاحقاً، لذلك رغبة تعلّم لغةِ الليالي حاصرتهُ بإلحاح.
فرض على زوجته الإتيان له بأستاذ متخصّص، يعرف ثلاثاً وثلاثين لغة بكلّ أبجدياتها المتباينة وظلالها السّحرية الخاصة.
وعلى الرغم من علو قامة التّلميذ في حرفته أنصت بعمق النّسّاك إلى أستاذه، وبعد تجاذب أطراف حديث دار مجمله حول سطوة الكتاب الّذي سكنه، استمع إلى الدروس الأولى بينما كانت ماريّا ترسم شكل الحروف العربيّة على راحة يديه حتى يتشرّبها، ويتحسّسَ شكلها، ويستشعرَ هذا الأثر الّذي اكتسبته عبر كلّ تلك السنين المتلاطمة.
في مكمنه، حيث يراكم حبّات سبحة عقده السابع، واظب على الوفاء لنداء حلمه بتخصيص وقت لدروس اللّغة الّتي رسمت حروفها على بطن كفّه لأنها البقعة الّتي احتفظت بخطوطها الواصلة بمنطقة الاستشعار والاحتكاك واللمس بعدما كلَّ نظرُه، وهجرته حاسّةُ البصر إلى غير رجعة.
يعتقد جازماً أنّ هذه اللغة تزخر بكلمات محكية مترابطة متواشجة غير مولّدة أو منفصلة، هي لغة بأبعاد عميقة، وإلّا ما موقع كتاب اللّيالي.
أن تحلم بالمستقبل معناه أنّ لغتك ارتقت، حقّقت منتهاها. ليس في الأمر استحالةٌ مشتهاةٌ، ولكنّها الترتيلة الكونية الّتي تلهج بها الحياةُ حتى طغى الحلم على باقي الاهتمامات الّتي رافقته، اهتمامات لها طبيعة سردية بالطّبع.
التّباين المريع كان يكمن في مكان ما أكثر عمقا وتيها، يجعله ينأى بنفسه عن القضايا الخاسرة، ويُؤمن بأنّ وجوده يتقوّى، ويرتقي في الأحلام؛ لأنه يسعى إلى رسم الحكايا الأصلية من خلال إتقان تهجّي حروفها الّتي كُتبت بها في لغاتها الأصلية، فهو يؤسّس لامتداده اللّانهائي عبر اللّغة والموسيقى؛ لأنّها المانحةُ كومةَ الإحساسات، والمُمكِّنة من الإصغاء الجيّد، كي يحسنَ التّأمل في ظلّه المضاعف في الزّمن.
نحن كائنات غريبة تسعى إلى احتضان هذه المعرفة باستمرار، لأننا نستشعر بالفطرة أنّنا لسنا الشخص نفسه الّذي سكن الأمكنة، وتهجّى الكلماتِ، وصاغ الكتاباتِ.
مأهولاً بصدى أصوات هذه اللّغات المتقاطعة في معمارية دماغه يردّد سؤالَه الدّهري لم نسعَ إلى تعلّم اللّغة؟
لابدّ أنّ ثمة نقطة ما للمعرفة متخيلة، تلتحم فيها استيهاماتُنا مع مدركاتِنا.
في النّقطة الصّغيرة الفاصلة بين زمنين في أبهاء تلك الأشواط المستقطعة للجرعات الأخيرة من الأوكسجين الدّنيوي يسعى كاتبُنا، كما كان دائما، إلى أن يصيرَ كاملاً.
حياته منفتحة على كلّ اللغات، رجل موسوعي، يسعى إلى تجرّع روح اللّيالي، والبحث في طيّاتها وفي ظلالها عن تلك الطّقوس الّتي حكمتها، وعن ناسها، وعاداتها، وجيناتها، وعن طبيعتها الإيروتيكية المذهلة الّتي أسقطتها التّرجمة، إذ دفعه إيمانُه بمهنة الكاتب إلى تجريب وصفات عدّة حتّى انتهى به الأمرُ أخيرا إلى تقمّص روح حكّاء شعبي، يقتعد زاويةً في السّاحة الشّهيرة بمدينة الحكي، يسردُ للمتحلّقين حوله لياليَ أرقه الطويلةَ في رحلة تعقّبه لترجمات اللّيالي العربية.
فالحقيقة العلمية تقول بأننا لا نعيش لحظةً زمنيةً واحدةً، وإن كنّا في كوكب واحد، ذاك أنّ المعرفة هي الزمن. والمفارقة الصّادمة أنّ الأعمى الّذي انمحى ظلُّه في جنوب القارّة البعيدة، لا يزال يخبّ في ساحة الحكي الشّفهي ممتشقا عكازَه الرفيعَ، فلا عجب.
قصة خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة