الجسد في زاوية العطش – قصة الكاتب الجزائري الطيب طهوري

12 يونيو 2020
الجسد في زاوية العطش – قصة الكاتب الجزائري الطيب طهوري

هي وعامل النظافة – قصة قصيرة


الطيب طهوري

كاتب من الجزائر

جفافٌ فيافيٌ هي ..لا أخضرَ فيها يينع..لا ماء يحيي التراب..
على الساعتين تماما يحضر زميلي..حضري ما نستضيفه به، قال لها..وحضرت..
أنزلها في مدخل الحي..العمارة k رقم الباب 09 ..ترك الباب مفتوحا..
كان الصغار في أقسامهم المدرسية..
ادخلي غرفتك وأغلقي الباب..إياك أن تخرجي، حذرها..
في كل أربعاء يتكرر الفعل نفسه..يتكرر نفس الكلام..ويواصل الجفاف الفيافي زحفه..
صوتا أنثويا سمعت..بحذر شديد فتحت الباب ..أمام باب مكتبه وقفت..كان الصوت أنثويا هائجا..كان تأوهات حارقة..و..
كانت في الداخل صراخا يصم الآذان..
الرد كان كفا غليظة أسقطتها أرضا وأسالت دمها..
الرد كان نومهما على سريرها الزوجي كل عشية أربعاء..
الرد كان شبه خادمة صارت..
***
تواطأت الريح مع الأشجار التي تقابل نافذتها..تواطأت الأشجار معها..ما إن تدخل شاحنة النظافة الحي حتى تهب الريح من جهة الشمال حيث لا وجود لعمارات تصدها..تعانق الأشجار فرحة وتحرك اغصانها بقوة تكاد تكون عنيفة..تسمع حفيف الأشجار..تفتح النافذة وتطل..بحسها تعرف انه قادم..كانت تسميه الكناس..صارت تسميه عامل نظافة..هم ثلاثة عمال نظافة..لكنها لا تسمي الإثنين الآخرين عاملي نظافة..تسميهما كنّاسين..
حين تقترب الشاحنة من عمارتها يخفق قلبها بشدة..ترتجف الساقان فيها..تتسمر في مكانها وتوجه نظرها إليه..خلف الشاحنة يسير.. تتوقف الشاحنة ..يحمل اكياس القمامة ويرميها فيها..تتمنى ان يرفع رأسه وينظر حيث هي..تتمنى ان يكون هنا..في حضنها..
ولا يرفع رأسه..لا يكون هنا..لا يكون حضنها..
الأكياس كثيرة وعليه ان يضعها كلها في الشاحنة..بين كوم الأكياس والآخر عشرات الأمتار فقط..أحيانا ينزل بعض السكان أكياسهم بعد ان تتحرك الشاحنة..يضطر عامل النظافة وزميله الكناس إلى استلامها من أيدي حامليها والإسراع بها إلى جوف الشاحنة..
كان عامل النظافة الذي غزا قلبها فاتح السمرة..قوي البنية..متوسط الطول..عيناه العسليتان حارقتان ،جذابتان ،تغزوان عميقها خيولا برية شاردة..
شعره الاسود الأملس يغريها بصهيله..
صوته الشجي يرميها في حقوله الشاسعة..
يتغنى احيانا فتذوب فيه..كان فريدا اطرش آخر..فريدها وحليمها وفيروزها كان..
حين يغني تتمايل الأشجار راقصة.تتمايل راقصة هي الأخرى..تبتعد عن النافذة داخليا وترقص..ترقص معه..رأسها على كتفه..ذراعه خاصرتها..من حين إلى آخر تضع قدمها على قدمه..من حين إلى آخر يضع قدمه على قدمها..
ما أروع رقصك يا عامل النظافة، تقول له.. ما أعذب غناءك، تضيف.. أحيانا تغني معه..
تنتبه إليها..وحدها تراها..تسرع إلى النافذة..يختفي عامل النظافة..تختفي شاحنته..يختفي الكناس الذي يشتغل معه..
تغلق النافذة وتعود إلى الداخل..تغمض عينيها وتسترجعه..
عامل النظافة لا يأتي كل يوم..يوما بعد يوم يأتي..
ماذا أفعل ليراني، ياترى؟ سألت نفسها..ضربت أخماسها في أسداسها ..ضربتها بأسداسها..دون جدوى..
سأفعلها، قالت مرة لها..لم تخرج كيس القمامة..حين وصلت الشاحنة حملته ونزلت مسرعة..في باب العمارة راحت تنتظره..حين صار امامها نادت:
يا عامل النظافة هاك الكيس..
استدار العامل إليها..ابتسمت..مد يده واستلم الكيس..لا شيء حدث..لم ينتبه لها..
عادت إلى غرفتها شاحبة..على سريرها ارتمت حزينة متحسرة..
ماذا أفعل لينتبه إلي، يا ترى؟ سألت نفسها أيضا..
حملت باليمنى كيس القمامة..باليسرى حملت كيس الحلويات.. وضعت كيس اليمين أمامها..بين كفيها كان كيس الحلويات..حمل العامل كيس القمامة..قبل ان يتحرك نادت:
انتظر يا عامل النظافة..خذ كيس الحلويات هذا ..إنكم تتعبون كثيرا من أجلنا ولا بد ان نجازيكم على فعلكم هذا..
كان حديثها ابتسامة رائعة..صوتها كان اروع أروع ..كان فيروزيا..
مد يده..قبل ان يستلم الكيس كانت كفها على زند يسراه..في مكانه تسمر..عانقت عيناها عينيه..كانت جريئة حد الدهشة..كانت نارا تسري في جسده ..كانت تفاحات حمراء وصفراء وخضراء.. إجاصات شهية كانت، نظرات تغزو نافذتها حين يمر وابتسامات لا تتوقف..
صار صوت غنائه أعلى..صار رقصَها الأبدي..
أسرع يا أخي، يقول له زميله الكناس..لا وقت لنا..ما تزال هناك شوارع اخرى لابد ان نمر بها..لم يكن يقول له هذا الكلام إلأ حين يمرون وشاحنتهم بعمارتها..
تجرأ الكناس مرة: يبدو أنك وقعت يا أخي..
لم يقل العامل شيئا..ابتسم..كان الأمر واضحا تماما، تماما..
تجرأت مرة أخرى..رقم هاتفها كان في جيب معطفه..في يده كان كيس الحلويات..
صباحا يعمل زوجها..مساء يعمل حتى منتصف ليله..بين العملين كان صوتهما في الهاتف غناء تارة..حكايات تارة اخرى..وعشقا ثالثة.. ماسنجرا فيما بعد..بالصوت والصورة كان..
وكانت النار تشتعل أكثر أكثر في الداخل..
في القلبين كان حقلين شاسعين أخضرين..نهرين أزرقين..أسماكا لا حد لجمالها تسبح فيهما..فيها وفيه تسبح..
يا لسحر صوتك، يقول لها ضاحكا..
يا لصهد عينيك، تقول له ضاحكة هي الأخرى..
بين الأشجار يسري ضحكهما..تضحك الأشجار بدورها..تضحك الريح..تغني العصافير والطيور والأنهار والجبال..تغني الحشائش.. تغني أزهارها..و..يغني الحصى..
تجرات أكثر: زوجي يعمل حتى منتصف ليله..تعال..
في التاسعة كان..الفصل شتاء..أدخلت صغارها غرفتهم وأغلقت الباب..تسرسب..لم يكن هناك أحد في سلم العمارة..دخل..كان البابا مفتوحا..وكان اللقاء فرحا لا حد له..كان تأوهات لاهثة..كان بكاء.. كان شهيق سرير دافئ..زفير جدران ندية سعيدة..
في كل اسبوع كان بكاؤهما فرحا غزيرا..
***
فتحت بابها..نظرت..لا أحد، قالت له..
عادت إلى الداخل وخرج..في اللحظة ذاتها فتح الجار بابه وخرج..والتقيا..
لم يقل الجار شيئا..لم يقل هو الآخر شيئا..
اخبرها أن الجار رآه..
انتظرا أسبوعا كاملا..لم يزرها..لم يشهق السرير ..لم تزفر الجدران نداها السعيد..ولم يفعل الجار شيئا..
في الأسبوع الموالي عاد..كان الجار خلف بابه يقف..كانت عينه هناك..عليه كانت..
في الغد حكى لزوجها..تردد كثيرا..ثم..حكى..
وضع الزوج كاميراه السرية حيث ترى ولا تًرى..وتأكد..
في المرة الموالية كان هناك..في بيت الجار..انتظر خمس دقائق..فتح البابا بهدوء ودخل..
كانا على سريره..كانا عاريين..
كانت نهاية زواج استمر عشر سنوات..
وأصاب الصغار يتم رهيب.

كاتب  من الجزائر

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com