ادريس الطلبي
قاص من المغرب
Zig-zag
مازالت المرأة القابعة في هدوء جنائزي بالتيراس الجواني من قلبي تختلس النظرات الرصاصية للقط النعسان قرب المدفأة في كسل فاضح,موسيقى هادئة منبعثة بانسيابية دافقة من فونوغراف عتيق ينبعث منه بوق من نحاس براق يبدو مع انعكاس الضوء بشكله الهولامي المخيف مثل حيوان خرافي, تنم عن ذوق رفيع, وجدار الغرفة مزين بلوحات لفنانين من مختلف أزمان الرسم والتشكيل ومنحوتات لنساء يحتفين بعريهن يضعن أيديهن على مكامن الحشمة فيهن , وبؤر الضوء المسلطة عليها من كوات مغلفة بزجاجات بلورية اللون تكاد تضفي على المكان سحرا فردوسيا يفوق الجمال .
دون سابق رغبة، أزاحت المرأة وشاحا من حرير بلون البنفسج عن رأسها وقذفت به نحو القط النائم , الذي لم يزدجر لهذه الحركة المفاجئة , فتح عينيه بتثاقل ثم أغلقهما بتباطؤ فطفق يلحس ذيله في التذاذ ثم عاد ليتكوم على نفسه , ثم عاود النوم دون أن يكترث بتواجد المرأة بجانبه..
بعد لحظة تتجه نحو مرآة الكومودينة بغرفة النوم , تتفحص وجهها في المرآة دون رغبة أيضا , ترتمي يدها في غفلة منها إلى مشط بمقبض عاجي صقيل ,تشرع في تسريح ما اعتقدت أن به بعض التشابك من شعرها المقصوص بعناية فائقة , ظلت بعض خصلات مقدمة رأسها نافرة، في تحد ساخر لمشط العاج و للمرأة المغناج . انتبهت أن القط مازال يغط في نوم عميق, قذفته ودون أن تنظر إليه بالمشط، حتى قفز من مكانه مذعورا، وكأن ماردا جبارا انبعث له من المدفأة التي بدأت نارها تخبو شيئا فشيئا ..
صبت كأس ماء رمت به بسرعة برقية ودون التذاذ بما في الكوب من ماء بارد في جوفها ربما لتطفيء حرقة مضمرة. بعد هنيهة تخففت من قميصها الحريري، وكأنها أحست بحرارة دافقة من جسدها الفوار، رغم أن المطر بدأ في الهطول منذ مدة ليست بالقصيرة. بدأ القط zig-zag يصدر أصواتا تشبه المواء أثناء البحث عن شريكة مفترضة، يبدو أنه يحلم بوليمة فاخرة أمام جحر فئران أو بقطة من زمن المجد، بعد أن تجردت من كل شيء تقريبا .. تقريبا وأصبحت عارية تماما..تماما ..
اقتربت أكثر من المرآة وشرعت تتلصص بنظرة جانبية من عينيها نحو القط النعسان الغاط في حلمه حد الشخير المزعج. خطرت لها فكرة جهنمية كأن تقترب منه وتربت على فروته الناعمة حتى يستكين لها ثم تشده من ذيله وتلوح به في فضاء الغرفة حتى يدوخ دوخة لا قبل له بها ، ثم ترميه من النافذة نحو المجهول، لعه ينسى هذا المكان إلى الأبد وحتى يرتطم بشيء ما ويفقد ذاكرته و ينسى صاحبته التي أمست تغضب منه لمجرد شروعه وعن عناد مسبق ومكر حيواني غريزي في لعق ولحس شيئه بمتعة لا تضاهى وهو في حضرتها ودون أن يتردد ولو للحظة بأنه يقوم بشيء يخالف الأعراف والأحاسيس والعشرة والرفقة الطويلة التي جعلت منه قطا مدللا إلى حد الغنج فهو يحمل اسما مثل تصرفاته الملتوية الرعناء؟؟ وتضع له سلسلة ذهبية نقشت عليها الأحرف الأولى من اسمه z-z ثم له دفتر طبي يحمل بالإضافة إلى اسمه وتاريخ ميلاده وفصيلته ونوع فروته وطوله ووزنه إشارات أخرى إلى حالته النفسية والعقلية …
ولكن الظاهر أن الخرف بدأ يتسلل نحوه مع مرور السنين ربما بفعل الوحدة والكسل فهو لا يغادر الغرفة إلا لقضاء حاجته البيولوجية إذا اضطر لذلك ,فقد يفعلها تحت السرير دون إثارة انتباه المرأة التي أصبحت تحنق عليه كثيرا من تصرفاته غير السوية، قط خامل كسول متهالك البنية ثمل النظرات متباطيء الحركات ولكن أفعاله صبيانية إلى حد القرف .
ذات مرة عندما أزعجها بكثرة المواء، قررت إخراسه إلى حين فاستدرجته إلى جانبها وهو يتمسح بها في حركات ذاعرة، حتى لما استحكمت منه , ربطته وعطلت حركته , قامت بحف شواربه حتى يفقد توازنه ولا تصبح أية مفعولية لراداره الذي يساعده على اصطياد الفرائس من بنات جنسه ومختلف هوام الليل والنهار وقلمت أظفاره وجزت بعضا من فروته حتى أصبح مسخا أو شيئا غير القط الذي كانه ,مسكين هو قط المرأة أصبح بلا شكل جميل وبلا شوارب نافرة ولا مخالب حادة ولا شعر فروة ناعم, قط تغير مزاجه نحو الأسوأ يموء كثيرا ويتبرز كثيرا ويتبول أينما اتفق ودون سابق إنذار, قط قد يرى فأرا مارا بجانبه أو حشرة ما دون أن يحرك ساكنا أو يخزره لم يعد يقوم بدوره الطبيعي المعتاد كقط .
لم تمهله كثيرا ولم تتردد كثيرا في معاقبته على ما قام به من فعل مشين يستحق عليه ربما النفي من ذات المكان حتى يرعوي ويصبح عبرة لمن لا يعتبر .
استشعر القط بغريزته الحيوانية ما قد يحل به بعيد حين من تعذيب على يد سيدته التي ظلت إلى أمد قريب توليه عناية فوق فائقة. تساءل في قرارة نفسه وهو يترقب ربما ضربة أو نهر قوي من طرفها، فكل شيء جائز, وأمارات الغضب بادية على محياها , ففعلته لا تسامح فيها , تأويه , تطعمه , تهدهده , تناغيه , تسامحه على لممه الصغيرة , ثم يكافئها بفعلة شيطانية في حضرة الشيطان , قط جحود إذن يستحق عقابا فوريا على فعلته المشينة. ربما كثرة التسامح على فعلات مشينات سابقات كالتمسح الفاضح بالضيفات اللواتي يزرنها، أو التقافز على الأرائك أمام الضيوف، أو إصدار الأصوات المزعجة عندما تكون في حديث مع أحد على الهاتف.. أو إزعاجها وهي تتابع بنهم برنامجا تلفزيونيا هاما حول قضايا شائكة ،قد يهون وقد تسامحه على كل ذلك، ولكن أن يمتع نظره وعن نية مبيتة وقصد خبيث في مباهج جسدها , فتلك جريمة لا تغتفر أيها القط الصفيق .
ودون سابق تخطيط وعلى حين ضربة موشكة، طفقت تزيل فردة شبشبها في حذر ثم تتجه بهدوء نحوه . ثم توجه له ضربة قوية دون أن تخطئه ، يستفيق القط النائم مذعورا وكأن مسا كهربائيا باغته وهو يتسلق عمود كهرباء ، أو كان ماردا جبارا طوح به نحو سماء بعيدة , يبدو أنها لم تفش غلها , مسكته بغضب من ظهره ,حملته بعنف فتحت النافذة ثم ..ثم طوحت به نحو الخارج ,خارج الغرفة التي ظل يحتلها ويعبث بمحتوياتها , سمع ارتطام شيء ما على سقيفة التيراس البراني , فربما يكون zig-zag قد اختلس نظرة أو نظرتين لجسدها البض وهي عارية تماما انتقاما منها على ما قامت به والمسخ الذي حولته إليه ذات صيف , أزاحت ما تبقى من كساء من على جسدها ثم انسلت ببطء نحو أدراج قلبي وهي تعد خفقاته المتسارعة .
وما هي إلا لحظات حتى عاد أدراجه نحو غرفة النوم غير عابيء بما حدث قبيل حين لم ينظر إليها , ولكنه انكفأ على ذاته ونام نومة تبدو هادئة لمن يراه عن بعد .
- إدريس الطلبي /خريبكة /المملكة المغربية
- ettalabi@gmail.com
قصة خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب -لندن
عذراً التعليقات مغلقة