أول قرض من البنك بعد الوظيفة كان لطبع الديوان الأول
حكايةُ الإصدار الأول
د.عبدالسلام المساوي
شاعر من المغرب
كان ذلك في صيف 1986..
رنوت إلى المخطوط الذي ضم إضمامة نصوص البدايات، وقلت لم لا أنشره في ديوان وأنضم إلى صف الشعراء، فيتحصل لي من ذلك خير كثير وأغدو كسائر الأدباء مزهوا بالشهرة والمجد؟! استشرت من توسمت فيهم الحميمية والاهتمام فتوزعوا بين مشفق من جلال الأمر الذي أنا مقبل عليه، وبين مكبر لروح المغامرة التي قصمت ظهورا وأسندت أخرى.. بعضهم قال لي: وكيف تفعل ذلك والشعراء الرواد من أمثال: أحمد المجاطي ومحمد الخمار الكنوني ومحمد السرغيني.. لم يصدروا دواوينهم بعد؟! فكرت في سريرتي بأن تباطؤهم لا يلزمني في شيء، وأنني حر في هذا الأمر الذي يخصني، لذلك توقفت عن استفتاء ذوي النصائح وكاتبت الشاعر المرحوم محمد بنعمارة الذي اعتبرته وصيا على تركتي من النصوص، وهو الذي حرص منذ البداية على إذاعتها على أمواج إذاعة وجدة ضمن برنامجه الشهير ” حدائق الشعر”.. ورجوته أن يكتب مقدمة للديوان تضفي عليه بعض المصداقية وتوطد ثقة القارئ به.. فقبل مشكورا أن يفعل. أحد الأصدقاء أشار عليّ بأن يكتب لي المقدمة كاتب من الرباط أو الدار البيضاء ممن تظهر صورهم عادة في الملاحق الثقافية والمجلات لكي تمسني بركته، فيقبل على شراء الديوان أتباعه وأشياعه.. فشتمت هذا الصديق في صمت وانصرفت عن انتهازيته، وما يزال هذا الصديق إلى اليوم يمرغ قلمه بين الرباط والدار البيضاء بقلة حياء زائدة(!)..
أذكر اليوم أن أول قرض من البنك بعد الوظيفة رصدته لنفقة طبع الديوان.. كان المبلغ كبيرا وكافيا لشراء سيارة.. لكن الشعر في ذلك الوقت كان أهم من السيارة في تقديري؛ والناشر البيضاوي نفسه أقسم لي يوم زرته على أن النقود تفنى ويبقى الأثر، وعندما ودعني بباب المطبعة كان المبلغ قد اختفى تماما في جيبه ولم يبق له أثر!
وعدت إلى فاس وقد تملكتني نشوة غامرة وغرور لا حد له، كيف لا وبعد أسابيع قليلة يصدر ديواني الشعري الأول، وأكون جديرا بأن يحسب لي ألفُ حساب، وأصبح من طينة الأدباء الذين قرأت عن مكانتهم في المجتمع والحياة.. ولشدة جهلي بحرفة النشر وحيل أصحابها صرت أخرج كل يوم لأتفقد الأكشاك عساني أرى عملي المطبوع يرفل بين معروضاتها، فينتهي بي المطاف إلى مكتب البريد لأؤدي فاتورة مكالمة يستعمل فيها الناشر كل ألفاظ تطييب الخاطر لربح مزيد من الوقت ومن فرص التنكيل بصبري وأعصابي.. ووجدتني ذات يوم أكتب له خطابا طويلا ركزت فيه كل مشاعري؛ فكلت له من الرجاء أضعاف ما كلت له من العتاب.. لكن الشهور كانت تمضي ببطء، فيمضي معها ما تبقى من ملامح الفرح بالإصدار الأول الذي يعرف قيمته كل من جرب هذه المعاناة!
توالت مكالماتي المكلفة وتوالت اعتذارات الناشر بلا حساب، ومرة هددته بعد أن فقدت السيطرة على لساني: لم لا ترد إليّ نقودي ويرتاح كلانا من هذه الصفقة الموجعة؟! فسمعت صوته على الطرف الآخر من الخط يهمس بأن عليّ أن أزوره في الأسبوع المقبل للنظر في أمر توزيع الديوان.. وفي الموعد كنت هناك أتملى بمظهر الديوان وأقارن بين غلافه الغريب وبين الورق الذي يستعملونه عادة لتلفيف ” قوالب ” السكر.. قال الناشر يومها بأنه لم يدخر جهدا لكي يخرج الديوان في هذه الحلة البهية (!).. ولما حملني بسيارته إلى شركة ” سوشبريس ” لإمضاء عقدة التوزيع، عرض عليّ خدماته بأن يكون هو الطرف الموقع مع الشركة لكي أضمن خصما مخففا من سعر التوزيع باعتباره عميلا لها، فصَمتُّ عن عرضه وقبلت بالـ 45 % على أن أعرّض نفسي لمزيد من دسائسه.
وقعت العقدة دون أن أقرأ بنودها، وظهر الديوان بعد أيام في الأكشاك، وكنت أستعرضه كل يوم وأتفقد وضعه بين ضرائره ومنافسيه، فأخرجه من بين الأكداس لعله يظفر بعطف المارة وبنظراتهم الشحيحة، ولم تمض غير أسابيع قليلة حتى صارت ألوانه تبهت وورقه يتآكل من فرط الشمس.. وذات صباح خرجت لاستعراضه كعادتي فلم أجده.. ونازعت فرحا طارئا بكون الديوان قد بيع عن آخره، لكن صاحب الكشك الخامس أوقف كل سبيل للافتراضات التي كانت تسير في اتجاه ما أتمنى، قال: “لقد جمعوه هذا الصباح “.. ثم أردف: “أتمنى أن يكون في بيتك متسع لاستضافة المرجوعات!” ولم أكن قد سمعت بهذه اللفظة من قبل (المرجوعات)، قلت له: ” ولكن لم يمض على التوزيع غير شهرين أو أقل.. فقال: “وكذلك يفعلون.. “
بعد شهر من اختفاء الديوان من الأكشاك استلمت رسالة من “سوشبريس” وبداخلها شيك بمبلغ بيع 498 نسخة من أصل 1000 نسخة بعد خصم نسبة التوزيع، ومع الشيك رسالة شبيهة بالتهديدات الصادرة من المحاكم أو من قسم الضرائب تقول: “إذا لم تستلم المرجوعات بعد انصرام الأجل الفلاني فإن الشركة ستكون ملزمة بإتلافها!”.
طبعا أخفيت يومها عن الجهة الموزعة بيعي لحوالي 300 نسخة، في لقاءات خاصة نظمها بعض الأصدقاء بمناسبة هذا الإصدار.
سيرة مختصرة
عبد السلام المُساوي
ـ دكتوراه الدولة في الأدب العربي الحديث سنة 2003، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس.
ـ أستاذ التعليم العالي مؤهل بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين فاس مكناس.
ـ عضو اتحاد كتاب المغرب منذ سنة 1991.
ـ عضو المكتب التنفيذي لبيت الشعر في المغرب.
ـ مؤسس المسابقة الكبرى للشعر وديوان التلاميذ الشعراء بأكاديمية فاس مكناس ابتداء من 2004.
ـ رئيس تحرير مجلة “علامات تربوية” التي تصدر عن أكاديمية فاس بولمان (2004 ـ 2011).
ـ عضو مؤسس للمهرجان الوطني للفيلم التربوي بفاس ومديره الفني خلال (2004 ـ 2011).
- حاصل على الجوائز الشعرية التالية في الشعر:
ـ جائزة الإبداع ضمن جوائز نعمان الأدبية (لبنان) سنة 2004.
ـ جائزة بلند الحيدري الشعرية (منتدى أصيلا) سنة 2000.
ـ جائزة فاس للإبداع والثقافة (مندوبية وزارة الاتصال ومنظمة الإيسسكو) سنة 1999.
ـ جائزة مجلة الفرسان (باريس) عن أفضل قصيدة عربية 1992.
- المنشورات الشعرية والنقدية (الكتب):
1ـ من أي حزن يقدون هذا الوتر؟ (الأعمال الشعرية) ـ مؤسسة مقاربات بدعم من وزارة الثقافة، 2017.
2 ـ وللمتلقي واسع التأويل (قراءات في الشعر المغربي المعاصر)، بيت الشعر في المغرب، بدعم من وزارة الثقافة، الرباط 2016.
3ـ الموت المتخيل في شعر أدونيس (دراسة) ـ دار النايا ودار محاكاة، دمشق 2013.
4ـ لحن عسكري لأغنية عاطفية (شعر) ـ دار النهضة، بيروت 2011.
5ـ جماليات الموت في شعر محمود درويش (دراسة) – دار الساقي، بيروت 2009.
6ـ هذا جناه الشعر عليّ (شعر) – مطبعة إنفوبرينت، فاس (بدعم من وزارة الثقافة) 2008.
7ـ إيقاعات ملونة (قراءات في الشعر المغربي المعاصر) ـ دار ما بعد الحداثة (بدعم من وزارة الثقافة)، فاس 2006.
8ـ عصافير الوشاية (شعر) ـ دار ما بعد الحداثة (بدعم من وزارة الثقافة)، فاس 2003.
9ـ عناكب من دم المكان (سرد) ـ دار ما بعد الحداثة (بدعم من وزارة الثقافة)، فاس 2001.
10ـ سقوف المجاز (شعر) ـ دار النشر المغربية، الدار البيضاء 1999.
11ـ البنيات الدالة في شعر أمل دنقل (دراسة) ـ منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق 1994.
12ـ خطاب إلى قريتي (شعر) ـ مؤسسة بنشرة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء 1986.
- شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات الثقافية والتربوية بالمغرب وخارجه وفي عدد من لجان التحكيم الوطنية والعربية. وصدرت له أبحاث أدبية وتربوية في كتب جماعية عديدة.
خاص لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة