العرّافة المشبوهة
عبد العزيز شبراط
كاتب من المغرب
وسط حي شعبي؛اختارت بيتا متواضعا ارضيا بدون طوابق؛ له باب خشبي تقليدي؛مصبوغ بالأخضر
الناصع وتتوسطه دائرة بيضاء وكأنها اصيبت باعوجاج صغير من احدى جوانبها؛ وأسفلها مباشرة
قالب نحاسي؛ على شكل يد بشرية تستعمل لطرق الباب؛ كان الحي مأهولا بالسكان؛ أغلبيتهم
أطفال وشباب؛ يقع وسط مجموعة من الأحياء الفاهرة، لقد فضلت (سليمة) هذا البيت المتواضع
لتكون بين الناس الشعبيين (على حد قولها)؛ فلطالما رددت امام الجميع أنها بنت الشعب؛
وتحب أن تعيش وسط الشعب؛لم يكن أحد يعرف اين كانت تعيش سليمة وولديها ( بنت وولد) قبل
الحلول بحيهم؛رحبوا بها وتعايشوا معها ومع اولادها بشكل سريع وسلس؛لكنها ظلت هي
وأولادها بعيدة عنهم؛ ولا تختلط بهم أو تشاركهم احتفالاتهم؛كانت شديدة الحرص أن تبقى
بعيدة عنهم؛ و ما أن شاع خبر سليمة أنها عرافة؛ حتى سارعت نساء الحي وبناتهن الى
زيارتها؛ وشيئا فشيئا انتشر الخبر في المدينة كلها: و بدأت الطوابير تتشكل أمام الباب
الخشبي الاخضر؛كل يوم ولا تنفض الا قبل الغروب بقليل؛ فداع صيتها في البلد كله؛واكتسبت
شهرة فريدة؛وبلغ صداها حتى السهول والجبال؛بل أصبح الحديث عنها وعن خدماتها حتى خارج
البلاد.
كانت قوية البنية؛ طويلة وعريضة؛ ولباسها متفرد فضفاض واخضر اللون؛ لا يفارقها النقاب
أبدًا؛ورأسها دائما مغطى بثوب أسود وكانت هيئتها تشق ناظرها في الأعماق؛ و تجعل كل من
يقف أمامها يحس برهبة قوية استثنائية؛ما جعل زوارها( وخصوصا النساء) يرددون أن عفريتا
أزرقا يسكنها؛ و يعتقدون أنه بلا شك هو من يساعدها في ما تفعل؛ ويقدم لها الحلول
المناسبة للأمور المستعصية؛ ويمنحها تلك الرهبة التي تتمتع بها؛كانت لها طرقا خاصة في
استقبال الناس؛ وتفرق في ذلك بين الشابة والشاب وبين السيدة والسيد؛ وكانت تحرص أن تقدم
خدماتها لأهل الحي بالمجان؛ وقد لا حظ الجميع ذلك؛ولكن لا أحد كان يفهم السبب.
لا أحد في الحي كان يعرف أصل حكاية ولديها؛هل حقا هما ولديها؛وهل هما شقيقين أم أخوين
من الأم فقط؛ أم فقط جلبتهما من احدى القرى للعمل عندها مقابل المال؛ لا أحد كان يعرف
الحقيقة؛رغم أنها كانت تردد دائما ان أباهما مات في حادثة سير مروعة وتركها معذبة
معهما؛ غير أن سكان الحي كانوا يشككون في هذه القصة؛خصوصا لما علموا أن البنت كانت
تتكلف بتنظيم الزوار داخل البيت؛في ما كان الولد يحرص على احترام الطابور في الخارج
أمام الباب؛ و يرتب أدوار الدخول للزوار بين النساء والرجال؛ كانا لم يبلغا بعد
الرابعة عشرة من عمرهما؛ وكانا خجولين وتبدو عليهما علامات الغبن وعدم الرضا بما يقومان
به؛ كانا يقضيان الاسبوع بكامله على هذه الحالة؛ باستثناء يوم الجمعة الذي كان يوم راحة
بالنسبة للعرافة سليمة؛وحتى في يوم الجمعة هذا؛ كان لا يسمح لهما بالاختلاط مع أطفال
الحي أو اللعب معهما أو محادثتهما؛و كانا لا يخرجان من البيت الا قليلا؛وحينما يسمح
لهما بذلك لا يغادران عتبة الباب؛ ويكتفيان بالجلوس على العتبة؛ ويظلان يراقبان الاطفال
يلعبون ولا يشاركونهم؛كانا محرومين حتى من طفولتهما؛ لقد كبرا قبل الآجال؛ ولم ينجحا في
تجاوز هذا الظلم المسلط عليهما قسرا؛ لاحظ الجميع هذا العنف المسلط عليهما؛ وأثر هذا في
مجموع الساكنة؛ وكان أطفال الحي يشفقون لحالهم؛لكن لم يستطع أحد من أهل الحي منع هذا
الحصار عليهما؛ وتخليص الطفلين من معاناتهما؛كان الجميع يهاب سليمة؛ كانوا يظنون أن
معارفها من سادة البلاد و من كبار سلطاتها؛فهم كانوا يلاحظون أن بعض زوارها ليسوا من
عامة الناس؛ إذ كانوا يأتونها خارج أوقات عمل العموم؛ وفي سيارات رباعية الدفع الفارهة
؛ وبلباس من الماركات العالمية المصنفة؛ كما كانت تبدو عليهم ملامح الجاه و السلطة
والمال؛هذا ما كان يقف في وجه سكان الحي لمواجهة سليمة؛ أو التدخل من أجل ان يكون
الاطفال في المدرسة؛ عوض ترتيب أمور طوابيرها؛ هذه الطوابير التي أصبحت مصدر إزعاج وقلق
للساكنة بأكملها؛و ما زال يتذكر أهل الحي يوم حلت بينهم سليمة؛ وأقنعتهم أنها بنت
الشعب؛ وتحب أن تعيش وسط الشعب؛ لهذا اختارتهم ورغبت في ان يقبلوها بينهم؛ لكنها لما
تمكنت؛ واتسعت شهرتها؛ وأصبحت حديث الجميع؛ تحولت الى غول خرافي يهابه الكبار قبل
النساء والصغار؛ و حولت حياتهم الهادئة البسيطة الى كابوس مرعب؛ و أصبح الشغل الشاغل
لكبار الحي ؛ هو التخلص من هذا الكابوس المرعب؛ ليعود الحي الى طبيعته السابقة.
كان لجيران سليمة بالبيت المقابل،شاب ( يوسف ) في السابعة عشرة من عمره؛مشلول الاطراف
السفلية؛يقضي أوقات فراغه أمام البيت على كرسيه المتحرك؛كان شابا جميلا وديعا؛ بوجه
مدور ناصع البياض؛ وعينين كبيرتين زرقاوتين؛ وأنف رقيق معتدل الطول؛وشعر اشقر ناعم
الملمس؛كان ذكيا ونبيها؛وكان دائما ما يتجمع حوله ابناء الحي؛يلتمسون مساعدتهم في حل
بعض التمارين المستعصية عليهم؛ في مادتي الفيزياء واللغة الفرنسية؛واللتان كان بارعا
فيهما؛وكان لا يبخل عن تقديم المساعدة في هذا الشأن لكل من لجأ اليه؛ و كان أيضا وهو
على كرسيه المتحرك يراقب بشكل عفوي؛كل الحركات التي تقع أمامه بباب بيت سليمة؛ فقد لاحظ
أن بعض الشباب لا تتجاوز أعمارهم الاربع وعشرون سنة؛وبلباس عادي لا يمتاز بأي تفرد؛
يترددون على هذا البيت بشكل مستمر؛يحملون حقائب متوسطة الحجم؛ وكانوا يدخلون البيت فور
وصولهم ولا ينتظرون الدور كما الاخرين المصطفين في الطابور؛ كما كان يبدو أن الطفل
المسؤول على التنظيم بالباب لا يعترضهم؛ربما كانوا يتبادلون والطفل بالباب بعض الكلمات
المشفرة؛ فيدخلون دون انتظار الدور؛ لكن ما أثار انتباه الشاب ذو الكرسي المتحرك؛ هو أن
بعضا من هؤلاء لا يغادرون بعدما يدخلون؛ ويبقون داخل البيت يومين أو أكثر؛ ثم بعد ذلك
يغادرون مع الواصلين الجدد؛كانت هذه العملية تتكرر باستمرار؛ على الأقل مرتين في
الاسبوع؛كما لاحظ أنهم يأتون دائما راجلين؛مطأطئين رؤوسهم؛ و كانوا يدخلون فرادى؛
ويغادرون أيضا فرادى؛ثم يعودون بعد يومين أو ثلاثة.
ذات يوم زار عائلة يوسف أحد أبناء عمومته؛وفي معرض الحديث الاسري حول صينية الشاي على
شرف ابن العم؛ بشأن الازعاج الذي تسببه لهم طوابير سليمة؛ادلى يوسف بملاحظاته؛فتدخلت
الام بعد سماع تلك الملاحظات من يوسف؛ و قالت: هكذا اذن؛ فهي تحصل على الاعشاب وكل
مكونات السحر و الاخبار من شبان توظفهم للبحث لها عن مشاكل زوارها وتزويدها بالالاعيب
السحرية ؛ وتدعي أمام الجميع مساعدة الجن لها! فضحك ابن العم وضحك الجميع اثر تدخل الأم
هذا؛لكن ابن العم كان يركز على الملاحظات التي أشار اليها يوسف ويدقق معه فيها؛و أوصاه
أن يدقق في المرات المقبلة جيدا في الوجوه؛ ويحاول ان استطاع استنتاج ما قد تحمله تلك
الحقائب؛ أو على الاقل معرفة مستوى وزنها( خفيفة أو ثقيلة) وهو ما شجع يوسف لمواصلة
ملاحظاته و تدقيق المراقبة؛وداوم على اخبار ابن عمه بكل صغيرة وكبيرة على امتداد ثلاث
اسابيع بشكل متواصل.
ذات فجر استفاق سكان الحي على صوت الاحذية الثقيلة؛والاضواء الملونة تومض في كل
مكان؛كما رجال الأمن الملثمون منتشرون فوق السطوح؛ وفي مداخل الشارع ومخارجه؛ يقودهم
ابن عم يوسف وينسق عملياتهم؛ورجال الاعلام الرسمي بكاميراتهم و آلات التصوير؛اتخذوا
أمكنة مختلفة؛فوق السطوح وأمام الباب؛ وبشكل سريع جدا؛ ومرتب ترتيبا دقيقا؛ كأنه تصوير
أحد أفلام الحركة الامريكية؛ أمر يوسف بكسر الباب الخشبي لسليمة ؛واعتقلوا الجميع؛خمسة
شبان والطفلين وسليمة؛ والعديد من الهواتف النقالة و ثلاث حواسب؛ ومواد متفجرة مصنوعة
يدويا؛ وبعض الساعات؛ وقدر مالي مهم و مجموعة من الاوراق الرسمية المزورة؛ وبعد الفحص
والتدقيق تبين أن سليمة ذكر متخفي في صفة انثى؛ و هو أمير إحدى الجماعات الارهابية
وتأكد بعد الاستنطاقات أن الطفلين مختطفان من أبوين مختلفين.
11/06/2020
قصة خاصة لصحيفة قريش -ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة