= الحبيب الدائم ربي
ـ المغرب
أطراس “عائشة”
اتخذت رواية “الكونتيسة” للكاتب المغربي ـ المقيم بهولنداـ مصطفى الحمداوي خلفيتها النصية من حكاية شعبية تدور حول كائن هجين يجمع بين الأنوثة الماحقة والبشاعة، شكّله المخيال الجمعي المغربي وأضفى عليه قدرا كبيرا من القداسة والجمال المرعب. إنه “عيشة قنديشة” التي تستدرج الرجال بجمالها فيهيمون بها حبا، تخلب أفئدتهم وتسرق عقولهم فيكون مآلهم الموت أو الجنون. ولغرائبية هذه الحسناء ذات الحافرين الكريهين فقد استلهم “جامعَها النصي” archétypeكثيرٌ من الحكواتيين و المغنين والأدباء والفنانين . فحضرت تارة باسم “عيشة” مختزلا، كما في أغنية “الشاب خالد”، مثلا، وتارة باسم موصوف، كما في رواية عائشة بنحدو “عانشة المتمردة” (بالفرنسية) Aicha la rebelle، أو رواية مصطفى لغتيري “عائشة القديسة”، بل إن السوسيولوجي بول باسكون نفسه أورد إشارة إلى ما حصل لأستاذ فلسفة كان ينجز بحثا حول “عيشة” فأصيب بالجنون ثم أحرق وثائق بحثه وغادر البلاد دون رجعة.
قد لا يعنينا، هنا، التوقف عند الأصل المرجعي الذي تولدت عنه هذه الخرافة التي تتضارب بشأنها المرويات، أغلبها تدور حول فارسة كانت تباغت جنود البرتغال، قرب الشواطئ المغربية، في غارات ليلية مفاجئة أو تستدرج بعضهم ليغرقوا في المحيط الأطلسي. بيد أن تناسخ هذه الشخصية في الأدب والفن جعلها مثار أسئلة وتأملات يتقاطغ فيها الواقعي والغرائبي. خاصة وأنها تتمثل في نماذج مختلفة يوحدها الجمع بين الفتون والخوف. وتتجلى صورها في لحظات شاردة من الوعي لدى الذين يصادفونها، وفي فضاءات مواربة أقرب إلى تلك التي سماها ميخائيل باختين بالكرونوتوبات، أو الأفضية البين بين. كما حصل للموسيقي كمال الرغاي وهو في ضيافة صديقه الرسام ذات ليلة. إذ تجلت له في لوحة وخيّرته بين الزواج بها أو الضياع، ففر هاربا بجلده في مغامرة مثيرة إلى إسبانيا. رغم أن هذا الهروب لم يمنعه من الإفلات منها، ذلك أنها ستتناسخ له في نساء أخريات(مارتا ومانويلا وحليمة) ألقت بهن الصدف المدروسة في طريقه، وهو يدمن المخدرات ويرتاد الحانات والأماكن المشبوهة. فما كان منه إلا الفرار المعكوس إلى المغرب. لكنه بذلك بدا كما لو كان يراوغ نبوءة ليقع فيها، على غرار أوديب في سعيه للإفلات الخائب من المشيئة. إذ لم تنقذه مدينة إفران الهادئة بين غابات الأرز في جبال الأطلس، ولا ارتياد “حانة الكذابين” من الوقوع في أحابيل غواية “عائشة” التي ظل مشدودا إلى حكايتها الآسرة.. هذه الخلاسية التي يزعم السارد سمير الكامل، بدوره، أنها اعترضه في طريقة إلى إفران وأقلها معه في سيارته مسافة لتودعه في الغابة وهو في ذهول من الهيام والهلع. حتى أنه أهمل المهام الموكولة إليه بخصوص إنقاذ الغابة من وباء” الدودة الجرارة” الذي حل بها، وراح يطارد الأشباح ويمني نفسه بالظفر ب” الكونتيسة” المتجلية مرة في الغابة ومرة في بحيرة “ضاية عوا” القريبة من مدينة أزرو. لقد كانت صورة طبق الأصل من لوحة ” تمثل فتاة بارعة الجمال شبه عارية وكأنها إلهة إغريقية !!” رسمها فنان مغمور يدعى جمال المشرقي ثم، وبعد أن اشتهر، سعى إلى شرائها ، دون جدوى، من صاحب الحانة موحى أوحدو الذي كان يحرص عليها من السطو والسرقة، وربما يبيت ساهرا بجانبها، لأنها تذكره بكونتيسة كان يعشقها، في شبابه، كانت تدعى كارولين أودران، قبل أن تختفي في الغابة. ولأمرٍ ما كانت من رواد الحانة : “حانة الأطلس” أو (حانة الكذابين) رسامة فطرية من السنغال أعادت رسم الكونتيسة بمهارة فريدة بناء على الأوصاف الدقيقة التي أدلى بها السارد الذي صادفها في الطريق أكثر من مرة. علما بأن جهات كثيرة كانت تحاول الاستيلاء على الصورة الأصلية لهذا الكائن الهلامي الذي يظهر ويختفي.
ولأن الأمر في النهاية يتعلق بلعبة سردية تتناص فيها الكتابة بالتشكيل والرسم، والواقع بالفانتاستيك، فقد حرص الكاتب مصطفى الحمداوي، في تحبيك خيوطها، بدوْزَنة آلات اشتغاله بما يكفي، ليضع شخوص ” الكونتيسة” أمام أدوارهم وأقدارهم في معزوفة روائية تضج بالحياة والإثارة. بحيث وفر لهم الفضاء الجامع هم الأمشاج، و الذاكرة المشتركة هم المختلفون في النشأة والتكوين. الهاربون من ماض ما ينفك يمسك بتلابيبهم. فكلهم ” أشخاص تائهون في ليالي الحانة منذ سنوات، لا شغل لهم إلا تناول العشاء(…)، وشرب الجعة والويسكي، والحديث الغريب الذي يدور بينهم”(ص.11) وهو حديث يحتوي، على قدر كبير، من “الكذب النظيف”. . كما جعل من راوي أخبارهم شخصية مشاركة تخوض معهم مغامرة الحب والجنون، ضمن نسيج نصي يتماهى فيه “الكذب الرومانسي والحقيقة الروائية”، إذا ما استعرنا عبارة رونيه جيرار. وذلك بالنظر إلى كون هذا “الهروب”، الحقيقي والمجازي، قد ورطهم في تيه لا يمكن تفاديه. لقد شكلت “حانة الكذابين” بمدينة إفران المغربية، ملتقاهم وسقف أوهامهم بما قدمت لهم من تعويض نفسي عن فشلهم في الحب والحياة. ففيها الخمر والحشيش والموسيقى، وهي موتيفات سمحت بانعتاق البوح وتصريف الضغوط والأكاذيب . والحانة هاهنا غابة بشرية تمور في شعابها أسرار وأهواء. ويقصدها الموسيقي والراقصة والرسام و المهندس الزراعي والباحث و العسكري والجاسوس واللص ورجل الأمن، ابن البلد والعابر، المواطن والأجنبي، من الجنسين ومن مختلف الأعمار. لكل واحد من هؤلاء أسبابه الخاصة التي تساهم في تأثيث لوحة لأنثى اختلفت أسماؤها لتلتقي في طرس “القديسة الفاتنة”. بعضهم رسم “كروكياتها” على الورق والقماش وبعضهم رسمها من كلمات وأخيلة بدقة تفوق نموذجها الواقعي المفترض، إنْ هو قد وُجد أصلا.
تفكيك التمثال
رغم أن الشاعر غيفيلليك يرى أنه “حتى لو ابتسم لك حجر فإنك لن تجرؤ على البوح بذلك”، إلا أن كلود إدغار هنري جار مورو، أحد شخصيات رواية “الكونتيسة”، وهو فرنسي كذلك، يزعم أنه ذات ليلة اقترب من تمثال الأسد الصخري بوسط مدينة إفران، فرآه يقف فجأة ويحرك ذيله !! وادعى، في ما ادعاه، أنه مِلك شخصي له. وليس غريبا، والحال هذه أن تغرم السيدة كارمن لودفيج، بدورها، بشجرة غورو العملاقة وتتزوجها، نعم تتزوجها، قبل أن تنتحر معلقة فيها.
إن الهروب من الماضي لدى شخوص الكونتيسة دفعهم، عبر الخمر والحشيش، إلى سلك سبل تعويضية بانتحال أسماء وصفات وهويات جديدة في معرض الأقنعة. فكلود إدغار يفتعل له قرابة مع الفنان الفرنسي جان هنري مورو، ومايكل ماسون ينسب نفسه لرئيس وزراء بريطانيا، إبان الحرب العالمية الثانية، تشرشل. وكريم الرغاي يتسمى بعادل أوتار العود، فضلا عن تخفي آخرين وراء صفات وأدوار مستعارة.
بْيدَ أن الكاتب مصطفى الحمداوي، وهو يمسك جيدا بخيوط لعبته السردية، لم يكتف بما رددته كائناته الروائية من مزاعم في لحظات انتشاء أو التقطته الحواس الخادعة .وإنما لجأ إلى تعرية اللعبة وأسرارها. لوعيه بأن التمثال الذي نحته بيجماليون، قديما، لجلاتيا لم يكن سوى صخرة، و الحسناء الطالعة من حجر الصوان لتسحر هذا الإله الإغريقي لم تكن أكثر من مجرد استيهام وهلوسة. فـ”عيشة قنديشة”، التي فتنت الرجال، لم تكن إلا فكرة من وحي الخيال المضطرب. والرسائل، الحاملة لتهديد مبطن، التي كانت تصل للمهندس الشاب من “الكونتيسة” ماهي إلا حيلة لشخص كانت له مصلحة في إفراغه من سكنه الجديد، والرسامة السنغالية التي “أبدعت” في رسم صورة للكونتيسة من خلال الوصف الدقيق الذي قدمه المهندس من أوصاف لها وهي تعترضه في الطريق لم تعتمد إلا على صورة قديمة للخادمة التي حولتها الحكاية إلى كونتيسة، لا على التوصيفات اللغوية، كما سيؤكد ذلك الرسام المشرقي نفسه في مقابلة يجريها المهندس معه في بيته بضواحي مدينة الشاون. وفوق ذلك فإن “الكونتيسة”المفترضة أو “عيشة قنديشة”، التي خلبت ألباب كل من صاحب الحانة و وزبائنه لم تكن غير خادمة أجنبية في بيت رجل أجنبي، لا أحد يعلم سبب اختفائها، وما طيفها الذي كان يعترض طريق المهندس الزراعي، بين الحين والحين، سوى فتاة أخرى بئيسة تقطن في الغابة وتشتغل بالمدينة. وتفاديا للتحرش والاعتداء كانت تتقمص دورا يؤثثه خيال المسطولين ومدخني القنب الهندي.
إننا، في رواية “الكونتيسة”، إزاء نص غني بصنعته الفنية، منساب بحركته السردية. نص متحكم في ضبط إيقاعه، وتنويع وجهات نظر سُرّاده، وتوزيع أصواته، دونما إخلال بالإثارة والتشويق. فرغم تعدد طبقاته الإحالية، من تشكيل وموسيقى وفولكلور وتاريخ، فإنه نص منسجم ومتماسك، وهو بهذا يلبي تطلعات مختلف القراء لما يوفره من متعة أدبية وفيض دلالي.
- الكونتيسة (رواية)، دار فاصلة للنشر، 2019.
عذراً التعليقات مغلقة