مصطفى مَلَح شاعر مغربي… من غبار على الرصيف الى دغل الفراغ

16 يونيو 2020
مصطفى مَلَح شاعر مغربي… من غبار على الرصيف الى دغل الفراغ

غبارُ لا يغادر المزهريّة

مصطفى مَلَح

شاعر من المغرب 

الغبارُ

الشَّمْسُ تَكْنِسُ ما تَبَقّى مِنْ غُبارِ اللَّيْلِ،

ثُمَّ تَمُرُّ فَوْقَ النَّهْرِ والغاباتِ والأَسْوارِ،

حَتّى إِنْ تَقَدَّمَتِ الأَكُفُّ تَجُرُّها،

رَحَلَتْ وما الْتَفَتَتْ،

وبَعْدَ سُوَيْعَةٍ غَرَقَتْ بِأَحْضانِ المُحيطِ،

وبَعْدَها نَبَتَ الغُبارُ مُجَدَّداً،

ونَمَتْ بِجانِبِهِ ظِلالُ اللّيْلِ،

أَمّا ما تَبَقّى مِنْ شُعاعٍ في مَمَرّاتٍ،

فَقَدْ حَجَبْتْهُ أَسْتارُ الغُبارْ!

المكنسة

الغُبارُ بِمِكْنَسَةِ الجارِ،

تَحْمِلُهُ الرّيحُ بَعْدَ غَدٍ،

فَيَصيرُ غُباراً بِمِكْنَسَتي،

ثُمَّ بَعْدَ دَقائِقَ تَكْنِسُهُ زَوْجَتي،

فَيَصيرُ غُباراً بِأَيِّ رَصيفٍ،

وبَعْدَ لَيالٍ يَحُطُّ – مُصادَفَةً- بِحِذائي،

وحينَ أَعودُ إلى مَلَكوتي،

يَصيرُ غُباراً بِمِكْنَسَتي!

غبارُ المزهريّة

المِزْهَرِيَّةُ لا صَديقَ لَها،

مَلَفّاتُ الخِزانَةِ لا صَديقَ لَها،

رُفوفُ المِرْيَلاتِ وجارُها الدّولابُ،

والقُرْصُ الإِلِكتْرونِيُّ في الحاسوبِ،

والعُلَبُ القَديمَةُ فَوْقَ مِرْآةٍ عَجوزٍ،

والكَآبَةُ فَوْقَ أَدْراجِ الوُجودِ،

وزَهْرَةٌ يَرْعى غُبارُ الصَّيْفِ فيها..

كُلُّ شَيْءٍ لا صَديقَ لَهُ،

أَنا أَيْضاً دَمَجْتُ وُجودِيَ الأَعْمى،

بِأَدْغالِ الفَراغِ،

وصِرْتُ بَعْدَئِذٍ.. غُبارَ المِزْهَرِيَّةْ!

يدٌ ثالثة

البابُ إنْ تَفْتَحُهُ الآنَ يَدٌ شِرّيرَةٌ،

تَدْخُلُ أَشْباحٌ وغيلانٌ وصَفٌّ مِنْ كَوابيسَ،

ولَكِنْ إِنْ يَدٌ عاشِقَةٌ تَفْتَحُهُ،

يَدْخُلُ عُصْفورٌ ومِزْهَرِيَّةٌ يَحْمِلُها النَّسيمُ.

كُنْتُ حينَها مُحايِداً،

لَسْتُ يَداً عاشِقَةً ولا يَداً شِرّيرَةً،

أَنا يَدٌ ثالِثَةٌ لَيْسَ لَها بابٌ،

ولا أَصابِعٌ أو بَصَماتٌ أو إِشاراتٌ،

وإِنَّما أَنا يَدٌ غريبَةٌ بِأَرْضِ اللهِ،

مِثْلَ عُشْبَةٍ تَنْبُتُ في سَقْفِ الغِيابْ!

الطّفل

أُولَدُ، أَحْبو، أَتَعَلَّمُ ارْتِكابَ الحُبِّ، أَحْفَظُ القِصارَ مِنْ كِتابِ اللهِ، أَحْفَظُ النَّشيدَ الوَطَنِيَّ، أَلْعَبُ الحَبْلَ مع البَناتِ والجَرْيَ مع الأَوْلادِ في طَمْيِ الشِّتاءِ، ثُمَّ تَنْمو عَضَلاتي في شُهورٍ، أَسْتَطيعُ أَنْ أَرُدَّ غارَةً يَقومُ تِلْميذٌ بِها، أَبْكي، أُغَنّي، أَتَشَهّى عُطْلَةَ الرَّبيعِ، يَكْثُرُ السُّنونُو، تَتَعَرّى الشَّجَرَةْ..

***

الامْتِحانُ شاحِبٌ، مُعَلِّمُ الحِسابِ يَجْرَحُ الطَّباشيرَ، دَمُ الشُّعاعِ، شَهْوَةُ التَّمارينِ، مَحَبَّةُ الجَرَسْ..

***

في حَفْلَةِ النَّجاحِ أَحْسَسْتُ بِوَطْأَةِ الفِراقِ، أَشْهُرٌ ثَلاثَةٌ لِعُطْلَةٍ مُوحِشَةٍ.. لَنْ أَضَعَ الصَّباحَ في مِحْفَظَتي.. لَنْ أَلْعَبَ الحَبْلَ مع البَناتْ!

تحرّش

يَتَحَرَّشُ ماءُ السَّماءِ بِتُرْبَةِ جاري،

ولَكِنَّ جاري يَصُدُّ السَّحابَ،

ويَمْنَعُهُ مِنْ مُمارَسَةِ الحُبِّ،

لَكِنَّني لَمْ أَدَعْ تُرْبَتي عاقِراً؛

ودَفَعْتُ السَّحابَ لِيَحْضُنَها..

وتَمُرُّ الشُّهورُ تِباعاً،

ويَأْتي الحَصادُ على عَجَلٍ،

فأَرى تُرْبَةَ الجارِ تَلْفِظُ أَنْفاسَها،

بَيْنَما تُرْبَتي،

أَنْجَبَتْ أَلْفَ سُنْبُلَةٍ عاشِقَةْ!

العناكبُ                                                              

للعَناكِبِ فَوْقَ الغُصونِ بُيوتٌ؛

بُيوتٌ من القَشِّ آيِلَةٌ للسُّقوطِ،

ولَكِنْ على كُلِّ حالٍ بُيوتٌ،

ولَكِنَّني قد رَأَيْتُ مَلايينَ في وَطَني،

لا بُيوتَ لَهُمْ!

***

مَرَّتِ السَّنَواتُ على عَجَلٍ،

وأَنا في النَّهاراتِ،

أَحْلُمُ بِالانْتِسابِ إِلى مَلَكوتِ العَناكِبْ!

المنحدر

بِمُنْحَدَرٍ وَراءَ الوَعْيِ ماتَ أَبي،

سَتَجْرِفُهُ رِياحٌ صَرْصَرٌ وتَدوسُهُ قَدَمُ الظَّلامِ،

ولَنْ أَكونَ مُهَيَّأً يَوْماً لِغَسْلِ عِظامِهِ،

أَوْ دَفْنِهِ في غابَةٍ قُرْبَ الحَياةِ،

لأَنَّني ما عُدْتُ حَيّاً يا أَبي،

أَصْبَحْتُ مُومْياءً بِمُنْحَدَرٍ وَراءَ الوَعْيِ،

عُذْراً.. لَمْ أَعُدْ حَيّاً!

أُفَتِّشُ في الصِّراطِ عَنِ الحَياةِ،

مَتاهَةٌ تَمْتَدُّ في وَعْيي،

أُحاوِلُ أَنْ أُلَوِّنَ جُثَّتي بِدَمِ القِيامَةِ،

رُبَّما أَجِدُ الطَّريقَ إلَيْكَ يا رَبِّ..

موت مؤقّت

لا نَموتُ ولَكِنَّنا نَسْتَقيلُ مِنَ الوَرْشَةِ العاطِفِيَّةِ،

كَيْ نَسْتَريحَ قَليلاً.

***

وحينَ نَعودُ نَزورُ أَقارِبَنا،

ونُزيلُ الغُبارَ الذي راكَمَتْهُ الحَياةُ،

ونَمْسَحُ دَمْعَ الأَواني الذي نَسِيَتْهُ النِّساءُ.

وحينَ تَعودُ المِياهُ إِلى النَّبْعِ،

والنَّوْرَساتُ إِلى الشَّطِّ،

نَشْتاقُ ثانِيَةً للتُّرابِ الصَّديقْ!

عارية تحت الشّمس

لَمْ أَمُتْ بَعْدُ،

لِماذا هَذِهِ الزَّهْرَةُ في زاوِيَةِ البَيْتْ؟!

***

الزَّرافاتُ على عِلْمٍ،

بِأَنَّ الأَرْضَ فَخُّ البَصَرِ الواعي،

لِهذا دائِماً،

تَصْعَدُ أَعْناقُ الزَّرافاتِ إِلى سَقْفِ السَّماءْ!

***

عُشْبَةُ الظِّلِّ المُغَطّاةُ بِصَمْتِ الهاوِيَةْ،

نادِراً ما تُبْصِرُ الشَّمْسَ،

وفَوْقَ التَّلِّ قُرْبَ الشَّمْسِ،

تَنْمو الشَّتلاتُ العارِيَةْ!

القلادة

السَّحابَةُ نَصٌّ يُؤَلِّفُهُ عَطَشُ الشُّعَراءِ،

وثَلْجُ الجِبالِ ابْتِسامُ مَلاكْ..

                         ***

كُلُّ تَعْويذَةٍ نُقِشَتْ في العِظامْ،

هِيَ فَخٌّ لِصَيْدِ العَدَمْ!

***

الحَقيقَةُ لَيْسَتْ سِوى كَذِبٍ،

كُلَّما جاعَ أَطْعَمَهُ النّاسُ بَعْضَ يَقينْ..

***

القِلادَةُ في عُنُقِ الكَلْبِ لَمْ تَسْتَطِعْ أَبَداً،

أَنْ تُجَمِّلَ قُبْحَ النُّباحْ!

غرفة ضيّقة

المَرْأَةُ التي تَنامُ جانِبي، 

تَحْلُمُ بِالمَقابِضِ التي تَشُدُّ المِرْيَلاتِ،

والمَناشِفِ التي تَمْسَحُ عُشْبَ المِزْهَرِيّاتِ،

مع السَّتائِرِ النّافِذِ من خِلالِها وَجْهُ الصًّباحِ،

والثُّرَيّاتِ التي يَحْضُنُها السَّقْفُ بِرِفْقٍ،

وأَنا أَحْلُمُ أَنْ يَتَّسِعَ العالَمُ:

إِنَّ فِكْرَةً واحِدَةً تَحْتاجُ غاباتٍ وأَنْهاراً،

فَكَيْفَ تَحْمِلُ الغُرْفَةُ نَهْراً،

وهْيَ بِالكادِ تَضُمُّ امْرَأَةً بِجانِبي؟!

قصيدة خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com