طلال زينل سعيد
الموصل
صدر عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع في عمّان كتاب نقدي جديد بعنوان: ((البقعُ الشعريّةُ الأرجوانيّةُ))، وهو يشتغل على مقاربةٌ جماليّةٌ في ديوان: ((لا حرب في طروادة، كلمات هوميروس الأخيرة)) للشاعر نوري الجراح، ونحسب أنّ هذا الكتاب يضع الناقد الدكتور محمد صابر عبيد على أعتاب تجربة نقدية جديدة، لما قدمه الكتاب من رؤى نقدية جديدة على صعيد التعبير والتشكيل والمعالجة الجمالية الإجرائية، بعد تجربة نقدية تجاوزت الثلاثة عقود والأربعين كتاباً نقدياً في نقد الشعر ونقد السرد ونقد السيرة، وهو إضافة نوعية للمكتبة النقدية العربية الحداثية على أكثر من مستوى.
اشتمل الكتاب على مجموعة من المباحث والفقرات النقدية المهمة تبدأ بمبحث ذي طبيعة نظرية عنوانه: (شاعرُ قصيدة النثر: تجربةُ قصّ الأثر) يقول الناقد عبيد في فقرة مهمة ((يختلف شاعر قصيدة النثر اختلافاً جوهرياً كبيراً عن شاعر قصيدة الوزن، وعن شاعر قصيدة التفعيلة أيضاً، ليس في نوع القصيدة –وهو أمر أساس وجوهريّ- فحسب، بل في طريقة التعامل البالغة الخصوصيّة مع اللغة ومع مفهوم الشعر وأسلوبيّة الأداء وطريقة التعبير وأفق التشكيل، إذ يخوض شاعر قصيدة النثر تجربة نوعيّة خطيرة شئنا أن نطلق عليها هنا “تجربة قصّ الأثر”، بالمعنى التشبيهيّ الذي يتنكّب فيه هذا الشاعر مهمة الدليل في صحراء شاسعة لا تقود إلا إلى مزيد من التيه، فاللغة التي يتحرّى شاعر قصيدة النثر استثمار طاقاتها هي لغة ثانية غير اللغة الشعريّة المتعارف عليها في تجربتين سابقتين. اللغة الشعريّة في تجربة قصيدة الوزن هي اللغة الفخمة المشحونة بطاقات بلاغيّة هائلة خرجت من رَحِمِ ما اصطُلح عليه “الأغراض الشعريّة”، تشتغل على مناطقَ لغويّةٍ ذاتِ فِقهٍ شعريٍّ محفوفٍ بالأمان والعنفوان والفخر والكبرياء والبلاغة والعلوّ، لغة تسكن في السماء ولا يحقّ لها الهبوط على سطح الأرض لأنّها تفقد بذلك شعريّتها مختلطة بكلام العامّة، فشرعتْ هذه اللغة تبالغ في الارتفاع مخترقةً طبقات السماء وكُتلَ غيومها وزرقةَ هيبتها اللونيّة بأعلى درجات الترفّع والفصاحة والغرور، فأنتجتْ على مساحة عصور شعريّة عديدة كمّاً شعرياً هائلاً حظي بقيمة تقديس مرعِبة لا يمكن مقاومتها، فبقيت تهيمن على الذائقة العربيّة أكثر من ألف عام محاطةً بهالات من الرعاية والدفاع المستميت عن النموذج.))، حيث يناقش قضية بالغة الأهمية والخطورة في البحث عن مفهوم جديد للشعر خارج القياسات التقليدية المتداولة، ويعقب ذلك برؤية نقدية مصاحبة للأولى عنوانها (مدخل في الرؤية الشعريّة) يفتح فيها الحوار النقدي على إشكالية الرؤية، ودورها في تشكيل المفهوم الجديد ضمن قراءة عميقة للناقد تدرك تأثير الرؤية في تشكيل المفهوم، وهو يعبّر عن ذلك بهذه المداخلة الثرية ((الرؤية الشعرية هي جوهر الفعل الشعريّ، ولا شعر من دون رؤية شعرية تحدّد طبيعة القصيدة وتوجهاتها وتركيباتها وجواهرها ومقاصدها، ويتعدّى مفهوم “الرؤية الشعرية” حدود وجهة النظر في العالم والكون والأشياء إلى دليلِ عملٍ شعريّ له علاقة بتحوّلات القصيدة ومصيرها، فمثلما ترسم الرؤية صورة القصيدة بمختلف طبقاتها وهيآتها وتفاصيلها وتطلّعاتها ومضمراتها وتشكيلاتها العليا والدنيا، فإنّها تصف على المستوى نفسه حراكها الشعري المتموّج والمتعدد والمتنوّع والمتغيّر في منطقة مجتمع القراءة، وتبقى هذه الرؤية فاعلة في تمثّلات القصيدة وإبلاغاتها وخطاباتها من أولّها إلى آخرها بلا توقّف ولا مهادنة ولا تراجع، بوصفها السلاح الفنيّ والجماليّ المُدافِع عن وجودها والحامي لرسالتها وخطابها. لا يمكن فهمَ وجودٍ حقيقيّ حيّ للقصيدة بلا دفاعات ذاتيّة تصدّ هجماتٍ شرسةً متوقّعةً ضدّ هذا الوجود وتسعى إلى تفكيكه ونثره وإنقاص شعريّته، بما يجعل الرؤية الشعرية على هذا النحو الحاملَ الأساسَ الذي ينهض بشعرية القصيدة وانطلاق خطابها في منطقة القارىء، بما تنطوي عليه القصيدة من أطروحات ومقولات وقضايا ونُظُم بناء وتشكيل وتعبير متعدّدة تتفاعل فيما بينها، وبما تعلنه من مواقف وما تضمره من قيم لا يمكن الوصول إليها بسهولة إلا بقدرات قرائية نوعية قادرة على فكّ شفراتها. الرؤية الشعرية كيان فنيّ وموضوعيّ متشابك ومتفاعل ومتعاشق تحت قيادة الخبرة الشعرية التي تُحسنُ الدفاع عن منهجها وطريقتها الخاصّة في التعبير، وهي نتيجة قصوى لمجموعة من الفعاليات ذات الطبيعة المنظّمة والممنهجة في سياق استثمار طاقات اللغة، وتحويلها من لغة تعبيريّة مُتعارَف عليها إلى لغة شعريّة غريبة تتمرّد أساساً على السياقات اللغوية المنتظمة المتداولة في الواقع اللغويّ الاجتماعيّ والثقافيّ العام، وهو ما تناوله بعض نقاد الشعر بتعبير “لغة داخل اللغة”.)).
في مبحث مركزي وأساسي في الكتاب عنوانه (البقعة الأرجوانيّة العنوانيّة) يحاول الناقد أن يستقصي حدود هذا المصطلح في الدرس الشعري، من خلال عنوان الديوان الشعري للشاعر نوري الجراح الذي يرى الناقد أنه يشكل بقعة أرجوانية شعرية مركزية فيه، وهو يعاينها نقديا على هذا النحو: ((لا تتوقّف عتبة العنوان عند هذه الجملة المنفيّة بل تمتدّ كي تعبر إلى الجانب الآخر حيث يمكث هوميرس بجانب ملحمته المهدّدة بالإلغاء والنفي، فيظهر اسمه مقترناً بكلماته الأخيرة “كلمات هوميروس الأخيرة” التي لا يمكن أن تكون سوى اعتذاره عن ابتكار حرب لا وجود لها، سخّر لها جهداً ملحمياً إبداعياً هائلاً استمرّ مدوّياً طيلة قرون، فالكلمات الأخيرة هي كلمات ما قبل الموت عادة حيث يدلي القائل بآخر ما تحتويه جعبته من كلمات، يمكن أن تقال على سبيل طلب العفو والتوبة على ما اقترفه من ذنوب يكبر حجمها إلى أقصى حدّ في هذه اللحظات، على النحو الذي تتوازى فيه جملتا العنوان:
لا حرب…… في طروادة
كلمات هوميروس الأخيرة
إذ تقابل مفردة “حرب” في الجملة الأولى مفردة “كلمات” في الجملة الثانية، وتقابل مفردة “طروادة” مفردة “هوميروس” مثلما تقابل “لا” النافية للجنس مفردة “الأخيرة”، في معادلة كلامية لا تبتغي فعالية التوازي الدلاليّ التناظريّ المجرّد، بل التعاشق الدلاليّ التفاعليّ في توحيد الصورة باتجاه تشكيل شعريّ مشترك واحد، يحلّ فيه الموضوع الشعريّ على أرضه الموعودة والمهيّأة له بشكل مثاليّ لا نقص فيه ولا زيادة. لم يكن الموضوع وحده هو ما يؤسّس للقصيدة التي تسعى إلى تمثيل تجربة نوعيّة تُخلصُ لأطروحتها وتستجيب لمقولتها، بل لا بدّ من عناصر تشكيل وتعبير حيويّة مصاحِبة تلتقط جوهر الموضوع وتمضي فيه على طريقة قصّ الأثر، كي يكون بوسعها بناء سلسلة من البقع الأرجوانيّة تنتشر على مساحة القصائد بأسلوبيّة حِرَفيّة عارِفة وقادرة على احتواء حركيّة الوجدان، وحساسيّة الرؤية، وأفق الفكر، وجوهريّة الثقافة، ونزاهة الأيديولوجيا، وطرافة التجربة.)).
يعقب الناقد عبيد ذلك بفحص عتبة أخرى مهمة في سلسلة عتبات الديوان الشعري هي عتبة التقديم، وقد وجد أنها أيضاً مشحونة بالمعنى والقيمة والدلالة والإحالة بحيث تؤسس لبقعة شعرية ارجوانية لا يمكن إغفالها في الديوان، ويعالجها على الشكل الآتي: ((يميل كثير من الشعراء إلى وضع تقديم يرصّع أعمالهم بعتبةٍ فيها سلطة ضوء عالية تمثّل بقعة أرجوانيّة باثّة لمزيد من النور الموحي، سواء أكانت مستعارة من كاتب آخر يجد المؤلّف أنّها تمثّله على نحو غزير، أو هي من إبداعات المؤلّف نفسه مثلما فعل نوري الجرّاح في تقديم مجموعته الشعريّة الجديدة هذه، وعتبة التقديم في هذه المجموعة تمثّل خطاباً ذاتياً أشبه ببقعة أرجوانيّة سيرذاتيّة تحكي على نحوٍ موجزٍ عذابَ الحياة وعذابَ الوطن وعذابَ الغربة وعذابَ الشعر، فيحشد الشاعر ما شاء له من الذكريات في اختصار للزمان والمكان والحدث والرؤية للبدء بمسيرة الألم من حافّة الموت المتربّص بالأشياء وعلى شفا غفلة منها:
دَمِيَ المُضْطَرِبُ يَمْلأُ يَدِيْ
لَيْتَني لَمْ أَكُنْ هُنَا
لَا الْيَوْمَ
وَلَا أَمْسَ،
وهَذَا النُّورُ المُرَاهِقُ
ليْتَهُ، ورَاءَ الْكِيلُومِتْرَاتِ،
فِي
الطَّلْقِ
الَّلاهِبِ
لَمْ يَكُنْ إِلَّا الضَّائِعَ مِنْ سَنَواتِ الضَّوْءِ.
البداية الأليمة دائماً مع الدم إذ هو عنوان التضحية وشعارها ونشيدها الوطنيّ، وحين ينتسب للذات الشعرية الراوية (دَمِيَ) فسيرتفع إلى أعلى مقامات الكثافة والحضور والصراخ والنداء والحراك، ولاسيّما حين يزدان بصفة منتخَبة بعناية وشعريّة (المُضْطَرِبُ) لأنّ اضطراب الدم هو قمّة الاحتجاج والثورة والانقلاب على الذات والآخر، أمّا حين يتجلّى على مرأى من صاحبه ويملأ يده (يَمْلأُ يَدِيْ) فلا مناص من امتلاء الإحساس بوجودٍ مهدَّدٍ لا يحمي الجسد، بحيث تكون الجملة الشعريّة على سعتها وبلاغتها معاً (دَمِيَ المُضْطَرِبُ يَمْلأُ يَدِيْ) ذات حساسيّة صوريّة تبدأ من النهاية.)).
وفي مبحث مركزي أيضاً من مباحث الكتاب يضع له عنواناً لافتاً على الصعيد النقدي الإجرائي هو: (الاندفاعة الأولى: أسطرة التجربة الشعريّة)، يتناول فيها بالتحليل الكثيف قصيدة مركزية من قصائد الديوان باحثاً في بقعها الأرجوانية التنويرية المضئية بقوله: ((ثّمة مفارقة عالية الوضوح في عتبة عنوان الاندفاعة الأولى في شاشة الانطباع القرائيّ الأوّل بين “الملهاة الدمشقيّة” و”لسان الجحيم”، فمصطلح “الملهاة” في الفضاء المسرحيّ داخل الثقافة الأدبية الإغريقية هي عكس “المأساة”، إذ تحيل الملهاة على الكوميديا في حين تحيل المأساة على التراجيديا، والعنوان الثاني “لسان الجحيم” هو عنوان تراجيدي بامتياز، لا يتلاءم منطقياً مع ما يحمله العنوان الأوّل “الملهاة”، وسرعان ما يتبادر إلى ذهن القراءة المَثَل الشعبيّ الشهير “شرُّ البليّة ما يُضحِك” حتى نعرف أنّ “الملهاة” هنا هي مرحلة ما بعد المأساة، بمعنى أنّ المأساة تستنفد أغراضها الدرامية التراجيدية وتعبر من فوقها نحو فجيعة أكبر، لتلتقي بالملهاة في مفارقة أكبر من حجم تحمّل طاقة المعنى وضغطها الهائل على الدوال.))، ثم ينتقل نحو مبحث آخر عنوانه: (الصوتُ الشعريّ: لعنة الزمن وعزاء المكان) يعالج فيه حساسية الصوت الشعري في نموذجه الإيقاعي الخاص ويقول فيه: ((لا يكتفي الصوت الشعريّ في حساسيّة اشتغاله على المصير الكونيّ للبشريّة بالوقوف عند عتبة صوغ الإيقاع حتّى تتحرّك الأفعال الشعريّة داخل حدود قابلة للفهم والإدراك، بل تحشد طاقاتها كي تستعيد الزمنَ في لعناته التاريخيّة الضارية والضاربة في أعماق الضعف البشريّ، التي تظلّ تعزّي المكان بلا هوادة على النحو الذي يبدو السؤال فيه وكأنّه لا يبحث عن إجابة محدّدة ووافية، بقدر ما يهمّه أن يواصل النحيب كي يصل في مرحلة جلد الذات إلى درجة يتحوّل الصوت فيها إلى نشيد كونيّ لا يتوقّف، كما هي الحال في قصيدة “صَوْتٌ” التي تنفتح على أكثر من أفق شعريّ داخل تجلّيات مكانيّة ساكنة:
لِمَ تَرَكْتَنِي هُنَا يَا لُوقْيَانُوس؟!
لِمَ تَرَكْتَنِي مُسْتَلْقِيَاً
عِنْدَ
تِلْكَ
الصَّخْرَةِ،
وَفِي رَاحَتيَّ المهَشَّمَتَيْنِ تَلْهُو شَقَائِقُ النُّعْمَانِ،
وَيَصْطَفِقُ الْهَوَاءْ؟
هذا الصوت الغائر في أعماق الأسطورة والباحث عن إجابات مقطوعة لأسئلة لا تنتهي، حين يبقى المسؤول عنه حائراً في دائرة المسؤول من غير جواب يمكن تخيّله على سبيل الاحتمال، على الرغم من حضور الإحالات الرمزيّة ذوات الأبعاد السيميائيّة التي تشكّل الصورة داخل فضاء السؤال وخارجه ” تَرَكْتَنِي مُسْتَلْقِيَاً عِنْدَ تِلْكَ الصَّخْرَةِ،/رَاحَتيَّ المهَشَّمَتَيْنِ/شَقَائِقُ النُّعْمَانِ،”، بما تنطوي عليه من إمكانات تنفتح على قصيدة لاحقة يكون فيها الـ”صوت” القيمة الأولى والأعلى للعنوان اللاحق “احْتِفَالٌ بَهِيمِيٌّ”، الذي تتحرّك فيه حيوات القصيدة في المكان والزمان بعيداً عن إنسانيّة العقل أو عقلنة الإنسان)).
ثم يفحص الناقد عبيد في مبحث جديد عنوانه (الإيقاع الصوتيّ: بقعة تنوير شعريّة مضاعَفَة) طبيعة الإيقاع الذي تحاول قصائد الديوان ابتكاره، على نحو يؤسس لإيقاعية جديدة لقصيدة النثر تنبع من طبيعة الموضوع الشعري والرؤية الشعرية المقاصد الشعرية، ويكشف من خلال معالجته النقدية الغزيرة عن جانب مهم من هذه الأطروحة الإيقاعية لدى الشاعر بقوله: ((في القصيدة الموسومة “سَمَكَةُ آخِيلْ/”أُنْشُوْدَاتْ” يتحرّى نوري الجرّاح توظيف مجموعة منتخبة من الأنشودات لنسج بنية إيقاعيّة دلاليّة تًحرّك الفضاء الشعريّ باتجاه إطلاق الصوت، عن طريق لقطات شعريّة تنضوي تحت لواء كلّ أنشودة منها، ففي قصيدة أولى في هذا الفضاء الشعريّ معنونة بـ”أنشودة” تتراكب شبكة إيقاعات فيما بينها لتشكّل ما يمكن أن نسمّيه “الإيقاع الدلاليّ الشعريّ” بصفة تشكيليّة متجوهرة، تبدأ بهذه البقعة الأرجوانيّة الاستهلاليّة:
يَنَالُ السَّهْمُ مِنَ الْغَابَةِ كَمَا نَالَ الْبَرْقُ مِنْ كَتِفِ الْجَبَلْ.
يتحرّك الإيقاع الشعريّ الدلاليّ في سياق صورتين متوازيتين مشبّهتين ببعضهما، الصورة الأولى “يَنَالُ السَّهْمُ مِنَ الْغَابَةِ” تنفتح على حركيّة السهم المنطلق نحو الغابة بآليّة الفعل المضارع “ينال”، توازيها تماماً الصورة الثانية بعد حرف التشبيه المتوازي “كما” لترسم صوت النشيد القادم من جوف السماء إلى قمّة الأرض “نَالَ الْبَرْقُ مِنْ كَتِفِ الْجَبَلْ.”، بحيث يوازي البرقُ السهمَ وتوازي الغابةُ كتفَ الجبل، ويوازي الفعل الماضي “نال” مضارعه “ينال”، في إيقاع شعريّ هارمونيّ بين صوتين مصوّرين متوازيين.)).
يعالج الناقد عبيد في رؤية مركزية من أطروحته النقدية هنا قضية علاقة البقع الشعرية الأرجوانية بقضية التنوير الشعري التشكيلي، وهي رؤية جديدة حقاً ينبغي الالتفات إليها والنظر فيها لما فيها من مساحات نقدية جديدة تقدم مفهوما مغايرا للنص الشعري الحديث، وهو يرصدها في مبحثين اثنين من كتابه الأولى بعنوان: (مركز التنوير والإشعاع الشعريّ) يقول فيها: ((تؤدّي عتبة التنوير العنوانية دوراً بالغ الأهمية في القصيدة على صعيد الإشراق الشعريّ وإضاءة منطقة الاستقبال، إذ هي لا تتوقّف عن إنتاج رؤيتها الشعرية ومقولتها الثقافية الفلسفية الأسطورية في تموّجاتها ومراحل تكوينها وصيروريتها الفنيّة والجماليّة، بل تستمرّ في معانقة التحوّلات التي تحصل في جسد القصيدة داخل كلّ انبثاقة حيّة من انبثاقاتها، وتتلبّث في ميدان هذا المركز التنويريّ الإشعاعيّ تجلّياتُ البؤرة الأرجوانية العنوانية “كلمات هوميروس الأخيرة”، وهي تتردّد بقوّة في حاضنة التشكيل الشعريّ وتستعيد العنوان الأصل “لَا حَرْبَ فِي طُرْوَادَة”، كي تشتغل على مجموعة من البؤر الأرجوانية الشعرية على شكل لوحات تشترك في نفي الحرب عن طروادة وتكذيب الأسطورة وهدم الملحمة، والوقوف على أعتاب مسار جديد مناقض لما هو معروف ومتداوّل. هل تعني جملة “كلمات هوميروس الأخيرة” تلك الكلمات التي سطّرها في نهاية الملحمة، أم تلك التي تركها قبل وفاته بقليل؟ على الرغم من أنّ الإحالة الأقرب على الدلالة هي كلمات ما قبل الموت لأنّها “الأخيرة” فعلاً، وحين نمعن في فضاء المتن الشعريّ للقصيدة سنجد أنّ الكلمات الأخيرة لهوميروس هي كلمات اعتذاريّة عن الذنب الذي اقترفه بحقّ القرّاء، أولئك الذين ربّما صدّقوا روايته عن حرب طروادة في الملحمة، فيعترف لهم في مدوّنته الاعتذاريّة هنا أن “لا حرب في طروادة” وعليهم أن لا يصدّقوا روايته.))، والمبحث الثاني بعنوان (التنويرُ الصوريّ: من البقعة إلى اللقطة الشعريّة) يقارب فيه إحدى قصائد الديوان ويحللها تحليلا نقديا ضافيا وعميقا بقوله: ((تحفل قصيدة “رِيَاشٌ سَوْدَاءْ” في مقاطعها المتلاحقة بعناقيد متشابكة من البقع الشعريّة الأرجوانيّة التي تُنتِجُ لقطات شعريّة تشعّ بالتنوير الصوريّ، إذ في كلّ مقطع من مقاطعها تكمن مجموعة من البقع وتعمل بوصفها مساحة شعريّة صالحة لتكوين صور، وهذه الصور تتكاتف فيما بينها لترسم التشكيل السيميائيّ العام لصورة أكبر تسعى نحو بناء مقولة شعريّة خاصّة، ففي المقطع الأوّل من القصيدة تنفتح الذات الشاعرة الراوية على السماء في دعاء تنويريّ يصف أكثر مما يطلب، ويصوّر أكثر مما يتمنّى:
رَبَّاهُ:
فِي ضَوْءِ الصُّبْحِ،
الصَّمْتُ هَالَةٌ،
وَصْفُ
جَالِسٍ
فِي
أَثَرٍ.
اللقطة الشعريّة هنا تتألّف من عدد متجانس من الخطوط تبحث في لحظات تشكّلها عن حساسيّة تنويريّة تلتئم وتتركّز في التوجّه الرحب نحو الربّ “رَبَّاهُ:”، وتبدأ بتصوير الحال الزمنيّة المقترنة بمعنى التنوير “فِي ضَوْءِ الصُّبْحِ،” في أوّل خطّ من خطوطها الشعريّة، وبالتوازي مع هذا الخطّ يمتدّ خطّ آخر هو “الصَّمْتُ هَالَةٌ،” تعبيراً عمّا ينشره ضوء الصبح من هالة صمت تتكلّم الطبيعة فيه بلا صوت، حتّى يأتي الخطّ العموديّ الهابط نحو الأسفل في انحدار حادّ يؤلّف تشكيله أمام قراءة بصريّة متدرّجة “وَصْفُ /جَالِسٍ/ فِي/ أَثَرٍ”، وكأنّ هذه اللقطة ترتسم في حركة الدوال على شكل مثلّث تتفاعل أضلاعه داخل فضاء التنوير الشعريّ الصوريّ.)).
ينتقل الناقد بعد ذلك إلى تجليات الفنون الأخرى التي استثمرها الشاعر في مدونته الشعرية الجديدة، واستعان بها على الخروج من أسر التمركز الشعري، ويبدأ بمبحث عنوانه (المحكي الشعريّ وسردنة التنوير) يتناول فيه بالنقد والتحليل إحدى قصائد الديوان على النحو الآتي: ((في القصيدة الموسومة “سَرَابْ” يتحرّى نوري الجرّاح ابتداءً من عتبة العنوان خاصيّة التشكيل العلائقيّ بين صفة المحكي في طبقة القول وصفة الشعريّ في طبقة الكلام، فالعنوان المفرد المنكّر “سراب” ينفتح على طاقة هائلة من الاحتمالات الدلاليّة والسيميائيّة والرمزيّة، من حيث قدرة المفردة على تشكيل صورة دلاليّة ذات ذخيرة مرجعيّة متعدّدة ومتنوّعة تتشظّى في السلّم الدلاليّ الصاعد إلى هالات لا حصر لها، وتحاول كلّ هالة مفردة منها أن توهم المتلقّي وتصرف نظره باتجاه أهميتها وصلاحيتها للاعتماد التحليليّ، وهي صفة تنويريّة تساعد على توسيع دائرة النور في هذه العتبة الابتدائيّة.
تشرع القصيدة في إطلاق حُزمتها التنويريّة الأولى بمساعدة الشخصيّة المُعرّفة الموصوفة وبمساعدة المكان القابل للتعدّد والتصوير الدلاليّ:
الْجَالِسُ الْأَعْمَىَ عِنْدَ الْبَحْرِ،
رَأَى مَا سَمِعَ،
وَكَانَ بَرْقَ خُطَىً حَائِرَةٍ،
الشَّاطِىءَ، وَالْمَوْجَةَ،
والزَّوْرَقَ الْخَشَبِيَّ وَرَاءَ الْمَوْجَةِ،
وَالْمَرْأَةَ الْمَيْتَةَ فِي الزَّوْرِقِ،
رَآهَا
مِنْ شِدَّةِ الْحُبِّ،
شَاحِبَةً،
وَيَدُهَا فِي غَبَشٍ تُلَوِّحُ.
تستقرّ الصورة الشعريّة على قاعدتها “الشخصيّة + المكان” على نحو بالغ الوضوح والصيرورة السرديّة المتناغمة تماماً مع حركيّة الفعل المزدوج “الْجَالِسُ الْأَعْمَىَ عِنْدَ الْبَحْرِ، /رَأَى مَا سَمِعَ،”، إذ يشتغل الفعلان الماضيان في حراكهما الراهن داخل الصورة على آليّة التوافق والتضاد في آن، فالصفة التي تستقرّ عليها الشخصيّة “الجالس” وتمنع الرؤية مستعيضة عنها بالسماع تستجدي البحر كي يسمح لها على نحو من الأنحاء تحويل المسموعات إلى مرئيّات، بما يختزنه السمع الأعمى من قوّة هائلة تصل إلى درجة الإبصار السمعيّ في استحداث طاقة تنوير هائلة تجعل الأعمى قادراً بجلوسه عند البحر أن يلحظّ بأمّ سمعه “بَرْقَ خُطَىً حَائِرَةٍ،/الشَّاطِىءَ،/ وَالْمَوْجَةَ،/الزَّوْرَقَ الْخَشَبِيَّ وَرَاءَ الْمَوْجَةِ، /الْمَرْأَةَ الْمَيْتَةَ فِي الزَّوْرِقِ،”، وهي شبكة من اللقطات الصوريّة المتقاطِعة تنتهي إلى اللقطة الصوريّة الأخيرة بوصفها البقعة التنويريّة المنتظَرة التي يشرق منها فعل التنوير الشعريّ.)).
ومن ثم يتناول في السياق نفسه وتحت عنوان (المكان الشعريّ التنويريّ وتشكيل البقع الأرجوانيّة)
قصيدة “السَّائِحُ فِي اللَّيلْ” حيث يرى أنها ((تبدو من عتبتها العنوانيّة أنّها قصيدة لا مكانيّة، لأنّ طبيعة الدال الخبريّ “السائح” تلغي على نحو ما فكرة الاستقرار المكانيّ، وتعبّر عن فكرة التحوّل المكانيّ واختراق ثباته وتموضعه حول صورة معيّنة قارّة، لكنّها توحي بالمكان في استثارة طاقته التنويريّة وهي تتأتى من سلسلة البقع الشعريّة الأرجوانيّة المكوّنة للقصيدة، فينبري السؤال في عتبة الاستهلال كي ينتج طبقة إيحائيّة تحيل على المكان:
مَنْ عَمَّرَ هَذِهِ الأَقْوَاسَ،
وَالظِّلالَ
وَشَادَ الْمَتَاهَةَ
أَيُّ لُعْبَةٍ
وَأَيُّ مَصِيرْ؟
تتجلّى الروح الاستفهاميّة
يتجلّى المكان الشعريّ حتّى يكون بوسعه القدرة على إنتاج فعاليّة التنوير عن طريق وحدات مكانيّة على شكل واحات شعريّة مُبأرة مشتبكة فيما بينها، بحيث يكون الراوي الذاتيّ الشعريّ هو الضامن الأساس لحركيّة المكان وفعاليّته))، وفي مبحث يتعلق بالصورة الشعرية وعلاقتها بالمشهد الشعري التنويري يقارب تحت عنوان (ديناميّة الصورة الشعريّة ومشهديّة التنوير) قصيدة من قصائد الديوان هي ((قصيدة “رُؤْيَا”))، ويجد أنها ((متجوهرة حول ذاتها في بقعة شعريّة أرجوانيّة مكتنزة تكتفي بذاتها ولا تحتاج إلى أيّة مكمّلات صوريّة إضافيّة، تعرض الصورة الشعريّة فيها مفرداتها وتفاصيلها وأجزاءها داخل حدود العين الرائية ضمن امتداد وقياس متكامل ومحتشد باكتمال:
الْأَنْعَامُ تَمْرَحُ تَحْتَ الْغَيمِ؛
خُلَاصَةُ مَا كَادَ يَمْلَأُ عَيْنَ الْمُسَافِرِ
بِتُرَابٍ قَدِيمٍ،
نَهَمُ الْفِكْرَةِ تَنْهَبُ مَا تَلَكَّأَ وتَسَاقَطَ فِي المَنْظَرْ
يتكوّن المشهد التنويريّ للصورة الشعريّة هنا من مرئيّ مركزيّ ذي إحالات متعدّدة هو “الْأَنْعَامُ”، تباشرُ تكوينها الصوريّ في اللقطة الصوريّة التي توحّد بين فضاء الفوق والتحت “تَمْرَحُ تَحْتَ الْغَيمِ؛”، فتنتهي الصورة في مرجعيتها المشهديّة النهائيّة إلى “خُلَاصَةُ مَا كَادَ يَمْلَأُ عَيْنَ الْمُسَافِرِ” حين تتحوّل عين المسافر إلى عدسة كاميرا لاقطة لمشهد كامل تحتكر الصورة الراهنة، وتفضي إلى نهايتها الحاسمة “بِتُرَابٍ قَدِيمٍ،” في الوقت نفسه استناداً إلى صورة طالعة من ضلع الصورة السابقة تُعزّيها بفقدان وحدتها لصالح الفكرة “نَهَمُ الْفِكْرَةِ تَنْهَبُ مَا تَلَكَّأَ وتَسَاقَطَ فِي المَنْظَرْ”، وهي تتدخّل في المشهد وتلتهم نواقصه التي لم تظهر في لوحة الصورة.)).
يرصد الناقد عبيد في مبحثين متعاضدين آخرين حساسية المكان والأسطورة في المبحث الموسوم بـ (البقع الأرجوانيّة: المكان والأسطورة)، ويتناول فيها بالنقد والتحليل قصيدة “هواء تينوس (أَرْبَعُ حِكَايَاتٍ لِلْمُرَاهِقِينْ) التي ريى أنها ((تستعير من المكان اليونانيّ فضاءه السياحيّ والأثريّ والحضاريّ كي يتحوّل بحسب مقولة القصيدة إلى حكايات صالحة للمراهقين، حين تنبري الذات الشاعرة لتلعب دور “دايدالوس” صحبة أبيه “إيكاروس” حيث يتنكّب الأب المعماريّ المحترف في أثينا مَهمة القيام ببناء متاهة لمينوس مَلك كريت بالقرب من قصرهِ في مدينة كنوسوس لحجز المينوتور، وهو مخلوق نصفه إنسان ونصفه الآخر ثور، ومن ثمّ قيام مينوس بحجز الأب وابنه لأنّه هرّبَ حبلَ النجاة لابنته “أرياندي” التي أنقذتْ به حبيبها من الأسر على الرغم من سلطة أبيها. وما يتبع هذه الحكاية الأسطورية من تفاصيل حيث يموت إيكاروس الأب غرقاً بعد محاولتهما الهرب من الجزيرة، عن طريق صنع أجنحة من الشمع والريش لا يمكنها مقاومة أشعة الشمس الحارقة طويلاً، وحيث لم يسمع الأبُ نصيحةَ ابنه بعدم الاقتراب من حرارة الشمس فكانت نهايته السقوط والموت.))، وفي مبحث لاحق عنوانه (المحكي الشعريّ وتخصيب البقعة الأرجوانيّة) مقاطع شعرية أخرى يفحص فيها تجلّي المحي السردي في الشعري، ضمن دائرة البقع الأرجوانية الشعرية التي تبنتها دراسته البالغة الكثافة والعمق والرحابة النقدية.
المبحث الموسوم بـ (الغربة الشعريّة: مغامرة اللغة والصورة) يعدّ مبحثا مركزيا للناقد محمد صابر عبيد في هذا الكتاب، بحكم أن الشاعر نوري الجراح من أكبر شعراء الغربة العرب من جيل السبعينيات الشعري العربي، وأكد حضوره الأدبي والثقافي والفكري في أوربا والعالم عبر شبكة من المشاريع الثقافية والأدبية المهمة حوّل فيها غربته إلى كون ثقافي مبدع ومنتج، وكان لشعره نصيب كبير من حساسية الغربة هذه أتى عليها الناقد عبيد في هذا الكتاب بقوله: ((ونحسب أنّ نوري الجرّاح في هذه المجموعة الشعرية على نحو خاصّ وفيما سبقها من تجاربه الشعرية توغّلَ في هذه المنطقة الشعرية، وتجاوز كثيراً من العوالق الرومانسية البكائية داخلاً في جوف عالمه الجديد بعيداً عن تراث الطلل بحساسيّته المريضة، وصار العمل واضحاً على إعادة إنتاج اللغة والصورة والإيقاع بما يُرسي وقائع فنيّة وأدائية وتشكيلية وتعبيرية وتصويرية جديدة تناسب المفهوم الجديد والرؤية الجديدة والفضاء الجديد، وتحدّي الذات والمحيط والمكان الزمن ومقارعته نحو ضفاف قصيدة جديدة.لا بدّ إذن من تفكيك مفهوم الغربة وتنويره شعرياً كي يتحوّل إلى مغامرة فنيّة بوسعها أن تحقّق ما لا يمكن تحقّقُهُ في سياق آخر، وقد وصف الشاعر نوري الجرّاح جزءاً مركزياً من أجزاء قصيدته بعتبة عنوان منكّرة ومفردة بالغة الصيرورة والتداول هي “مغامرة”، داخل فضاء كمونات شعرية تكتنز كثيراً من التفاصيل الصغيرة لتجربة الغربة في منحاها التنويريّ المغامِر، ابتدأها بـ”مراكب مهجورة” وقد جعل لها في كلّ مركب منها صورة ورؤية ومجالاً شعرياً يعمل وحده في سياق، ويعمل مع ما يجاوره في سياق آخر، وتعمل هذه المراكب شعرياً على طرفي العنوان “الموصوف/مراكب” والصفة “مهجورة” لتحفر في بقع أرجوانيّة تتركّز فيها المؤونة الشعرية، وتشرع بالبقعة الأرجوانية الأولى على هذا النحو:
قَبْلَ أَنْ يَكُونَ لِيْ مِقْعَدٌ فِي طَائِرَةٍ،
قَالَ لِيْ صَدِيْقٌ طَوَاهُ فِرَاشٌ فِي نِيْقُوسْيَا: إِحْذَرِ الرَّأْسِمَالِيينَ.
تكتنف صورة هذه البقعة الشعرية الأرجوانية مجموعة من ملامح الغربة وإفرازاتها وتجلياتها، فالتشكيلات اللغوية الشعرية المحتشدة في هذا الحيّز الضيّق نسبياً “مِقْعَدٌ فِي طَائِرَةٍ،/صَدِيْقٌ/طَوَاهُ فِرَاشٌ/فِي نِيْقُوسْيَا/إِحْذَرِ الرَّأْسِمَالِيينَ”، توشك أن تحكي قصة الغربة وقصة المغامرة على أكمل الوجوه من حيث توفّر الأدوات التي لا بدّ منها للقصّتين معاً، وتتمثّل هذه الأدوات في وسيلة الهجرة التي لا بدّ منها، الصديق الذي لا بدّ منه لأنسنة الغربة، الموت الذي لا بدّ منه حتى تتكامل صورة المأساة/الملهاة، الموطن الأول للغربة بوصفه محطّة أولى لكثير منهم، ومن ثمّ الحذر من الإيقاع بالغريب)).
انتهى الناقد أخيراً في خاتمة كتابه إلى ما يشبه الملخّص النقدي تحت عنوان (البقعة الأرجوانيّة الختاميّة)، حاول فيها أن يقف على القصيدة الأخيرة في الديوان وهي بعنوان (ما بعد القصيدة)، وكأنّ الشاعر انتقل إلى مناخ آخر عابر للديوان ليقول كلمته القادمة الساكنة في رحم تجربة جديدة أخرى، ويقاربها الناقد عبيد على هذا النحو: ((عنوان “ما بعد القصيدة” عنوان مثير على صعيد فهم معنى “ما بعد” بوصفه إحالة على ما هو غير شعريّ خارج جسد القصيدة، لأنّ القصيدة على وفق دلالة هذه الجملة العنوانية تبدو وكأنّها قد اكتملت واستوت على ما تنوي إثارته من مقولات ورؤى وقيم وأفكار وحساسيات، ليكون ما بعدها شيئاً آخر لا يمكن البتّ بحساسيته الفنية قبل امتحانه واختبار نصّه على وفق بيانات أكيدة وراسخة، إذ تبدأ رواية الحدث بوساطة راوٍ بدا موضوعياً خارجياً يسعى إلى تقرير الأشياء وتثبيت معالمها، ويتشبّع استهلالها بتناصّ قرآنيّ يحيل على إتمام التجربة “الرسالة” وإشباع القصّة القائمة على الرؤيا اليوسفيّة، ضمن مسارات وخطوط وتشكيلات وهيآت يتمّ تنويرها بفعل هذا التوازي السيميائيّ بين طرفي التناص:
الْيَوْمَ أَتْمَمْتَ سَطْرَكَ،
وقَصَصْتَ رُؤْيَاكَ عَلَى القَصَصِ.
يستعير الراوي الجملة الظرفيّة القرآنية ويتناص معها سيميائياً حيث يقابل إتمام السطر الشعريّ في القصيدة اكتمال الدين والإسلام، على نحو يتداخل مع تناص آخر مع قصّة النبي “يوسف” وهو يقصّ رؤياه على أبيه، لكنّ فعل القصّ في القصيدة يتوجّه نحو قصص أخرى تخصّ تجربتها، وتتواصل فعالية التناص من المرجعيّة الدينيّة القرآنيّة والإنجيليّة والتوراتيّة لأجل تكثيف الرؤيا والرؤية الشعريتين ودفعهما باتجاه صورة تكامليّة. ليكون المشهد الختاميّ حافلاً ببقعة أرجوانيّة مكتظّة بالنور تشعّ وراءها وأمامها على حدّ سواء، لتُكسي ما سبقها من بقع أرجوانية بمزيد من الضوء الشعريّ وتفتح أمامها شعاعاً يذهب في الاتجاهات المنفتحة كلّها، أملاً في مواصلة طريق التنوير للإمساك بالمأساة/الملهاة والسعي إلى إيقافها أو التقليل من زخمها بمساعدة الأسطورة، التي تحطّ على بؤر التنوير الشعريّ في القصيدة كما يحطّ الطائر المهاجر وهو يتلو على الماء والتراب قصته، بما تتناسله من قصص وحكايات قد لا تنتهي بسهولة، وقد لا يسكت الراوي عن الكلام المباح في ظلّ سرد شعريّ عنيف لا يتوقّف سيل دمه فيه بين الدالّ والمدلول.))
اللغة النقدية التي قدّمها الناقد الدكتور محمد صابر عبيد في هذا الكتاب لغة خاصة فيها قدر كبير من الشعرية، لذا لا غني عن قراءة هذا الكتاب والاستمتاع بمقارباته الجمالية التي تتفاعل بطريقة نقدية ثرية مع قصائد ديوان نوري الجراح، ولعل هذا اللقاء بين قامتين عربيتين متميزتين هو ما أعطى الكتاب هذه الأهمية المثيرة على مستوى المتعة والفائدة معاً.
عذراً التعليقات مغلقة