*أنواع قطع السفن ..و أجناس من الفراشات القزحية*
*شميم المكان … انطباعات من وحي زيارة منزل الشاعر بابلو نيرودا**
“la-isla negra”*
د. رشيدة بنمسعود
*كاتبة وناقدة من المغرب*
شميم المكان … انطباعات من وحي زيارة منزل الشاعر بابلو نيرودا ب “la-isla
negra”.
أثناء انعقاد مؤتمر اتحاد البرلمان الدولي في دورته 108 بمدينة سانتياغو دي
شيلي ، قلت مع نفسي لن تكتمل زيارتي لهذا البلد ولن تكون لها متعة الاكتشاف
الثقافي ، إلا بزيارة منزل الشاعر بابلو نيرودا الذي يبعد عن العاصمة الشيلية
بسبعين كلومترا ، فعلا بعد انتهاء أشغال المؤتمر سافرت إلى : ” la-isla negra
” ، حيث يوجد المنزل / المتحف و التحفة ، أثناء الطريق لم أكن لأنصت إلى
المرشدة السياحية المرافقة لنا في هذه الرحلة ، و هي تتحدث مرة باللغة
الانجليزية و ثانية باللغة الاسبانية عن مشروع بناء الشبكة الطرقية و عن
الفلاحة و أنواع الخضر و الخمور في الشيلي و عن واقع و نشاط السياحة ، بقدر
ماكنت أحاول النبش في رفوف الذاكرة عن منتوج نيرودا الشعري : ” اسبانيا في
القلب – نشيد لستالنغراد – النشيد العام – موجة تغادر الساحل – تذكار الجزيرة
السوداء إلخ…
في ” الجزيرة السوداء ” – عند مرتفع متوسط العلو ، يركن بيت نيرودا الذي يقال
أنه من تصميمه ، بل أنه شارك أيضا في بنائه… عند أطراف منزل نيرودا يجثم
البحر الهادئ الذي وجدناه فعلا هادئا وديعًا وكأنه يشكو من مرارة فقدان عاشق
وفي … لن يكون إلا نيرودا يسحرك المكان بجماله و بهائه … فيجتاحك السؤال
تلو السؤال ؛ من اختار من؟ هل اختار المكان نيرودا ليكون حضنا لتناسل أشعاره
التي انسابت على إيقاع سمفونية حياة المحيط الهادئ ، أم ، أن بابلو نيرودا
الذي أتحفت أشعاره الآذان و حركت الوجدان عبر العالم هو الذي اختار المكان
ليكون ملهما و ملاذا حيث امتزج دفء المكان و بهاؤه بجمالية شعره و روعته…
إن الشاعر و قصيده و مكان إقامته و سكناه فتنة و جمال و استثناء…
عند عتبة البيت ، قمت بتقديم التحية لروح نيرودا … السلام عليك منذ نظمت
الشعر نشيدا للوطن … السلام عليك حيا و ميتا ، الآن و غدا …أحسست و كأن
المنزل يحتضن دفء العالم … وكأن صاحبه قد خرج للتو لمطاردة قصيدة هاربة
متمنعة …
في البيت الكل مرتب بدقة و عناية فائقة … كل شيء يوحي بأن الحياة هنا ما
تزال تقيم … قصائد و ذكريات تتغنى بها الجدران … المكان مرتب كما كان
نيرودا يرتب أشعاره النابضة بالأمل و الحرية …
بفرح و فضول طفوليين، أتأمل أركان البيت فأزداد يقينا ان هذا البيت بتفاصيله و
مواصفاته الجغرافية و الثقافية لا يمكن ان يكون إلا لشاعر و لنيرودا بالذات .
. و ليس لأي شاعر آخر …
هندسة تحاكي في امتداداتها خريطة الوطن . . مساحته ليست بمربعة و ليست
بمستطيلة … ينتابك شعور و أنت تكتشف و تستطلع زوايا البيت أن مياه البحر
ستداهمك . . كل زاوية من زوايا البيت تستدرج البحر و تغريه بالإقامة فيه…
صالون الاستقبال يطل على البحر.. قاعة الأكل.. المكتب..غرفة النوم..
هكذا جعل نيرودا من البحر قبلة و أيقونة و بوصلة للإبحار في ديوان الكلمات
الجارحة و المكلومة من أجل قصيدة عاشقة..فرحة مفقودة ، و حرية مغتالة.. ينام
نيرودا على بحر.. و يستيقظ على بحر.. و تنساب أشعاره بحرا و بلاغة و إبداعا.
و أنت تتجول في البيت، الثحفة و المتحف تستوقفك أنواع قطع السفن .. و أجناس من
الفراشات قزحية الألوان .. و عديد من الكؤوس البلورية و المختلفة الأحجام .. و
أنا أتأمل هذه الكؤوس الملونة الموزعة بإخراج متقن فوق الطاولة . “نيرودا لم
يكن يحلو له الشراب إلا في الكؤوس الملونة” تهمس في أذني المرشدة السياحية.
في غرفة المكتب ، يوحي لك القلم الممدد بعناية فوق المكتب بأنه في انتظار
قصيدة أخيرة لم تكتب بعد.
في خزانة لملابسه ، أحدية ملمعة .. قبعات مختلفة الأشكال مصففة بعناية ..
خيزرانة موضوعة على الحائط …
البيت و أشياؤه في انتظار نيرودا الذي سيعود ولن يعود ، مات نيرودا مرات عديدة
من أجل قصيدة ، مات نيرودا و بقيت القصيدة.
خاص لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة