رشيدة بنمسعود كاتبة مغربية تجالس ياسر عرفات.. وفي بيت لحم تشهد على تاريخ نبل التسامح الديني
رأيتُ القُدس
د. رشيدة بنمسعود
*كاتبة وناقدة من المغرب*
في أحد الصَّباحات الرمضانية المثقلة بالكسل، رن الهاتف في بيتي، تلقيت المكالمة بخفة، كي لا توقظ أهل الدار، خصوصا من يقوم الليل كله مجتهدا عل طريقته (أ) فأتاني صوت عرفته للتو.. من بعيد .. يغيب ويعود، يتقطع.. ثم يتردد صداه.. زف لي الصوت دعوة.. رحبت بها مبدئيا، ووافقت عل الفور وقلت مع نفسي، أخيرا سأرى القدس.. سأعانق القضية.. الحلم والأسطورة.
عند جسر الحسين، استدرجونا بمكر إلى دخول مركز نقطة العبور الإسرائيلي، قلوبنا مبتهجة ومكتئبة في آن واحد، تقدم إلينا شاب أسمر يتحدث بإحدى اللهجات الشرقية، اختلط علينا الأمر، لم ندر نحن أمام من؟
أعربي فلسطيني هذا؟
أم، إسرائيلي عربي؟،
حين بادرنا قائلا: “هل معكن سلاح؟ توارى خلف السؤال.. تلفت يسارا فأبصرت شابا آخر يلتقط لنا صورا بكاميرا الفيديو..
توجهت باستفسار إلى صديقاتي (مغربيتان وتونسية) والمرارة تعتصر قلبي والسُّخرية تخنق كلامي، أين نحن؟..
ارتجت دواخلي لمرارة السؤال (هل معكن سلاح؟)… فكدت أصيح وأصرخ (معنا حب وبضع كلمات).
لكن الذاكرة طوحت بي بعيدا، إلى الماضي الغائب/الحاضر يوم أيقظتني أمي كعادتها وألبستني المعطف الأبيض وناولتني الفطور والدفتر، فغادرت المنزل.. وعمتي كعادتها ترتل على مسمعي الدعاء اللازمة… (سيري ابنتي الله ينجحك ويفتح لك بصاير الخير)، يومها فتح الله بصيرتي على محنة فلسطين واحتلال القدس والخليل… يومها أقامت في فلسطين، فصرت أحلم بالإقامة فيها.
في ذلك اليوم وأنا متوجهة إلى ثانويتي، شاهدت ما لم أكن أتوقعه، وما لم أكن قد شاهدته في حياتي الصغيرة إلا مرة واحدة أثناء أحداث سنة 1965، ذاك اليوم احتفظت بذكراه في رفوف ذاكرتي.. شباب ثائر.. غاضب.. يندد بالهزيمة ويلعن مجرمي اليهود والصهيونية .. يعد بأمل عريض، وبنصر قريب… ويتوعد بالانتقام… كانت هناك سيارات الشرطة تحاصر المكان وتحاول اغتيال صدق أصوات الطفولة البريئة.
عدت إلى البيت منكسرة الخاطر وجدت أبي (رحمه الله) يلصق أذنه بالمذياع على غير عادته باحثا عن إذاعة (صوت العرب)، سألته مالها فلسطين يا أبي؟ فحكى لي حكاية بلفور والوعد المشؤوم، انزويت بعدها في ركن من أركان البيت المنسية، وكتبت وقلمي الطفولي يتعثر، فكان آخر ما كتبت (لابد من الانتصار وعودة فلسطين.. لابد وإن طال الزمن، أن نصلي في القدس “5-6-1967”. وبعد مرور ما يزيد على ثلاثة عقود، هل أعادتنا هذه “لابد” التي تلقفتها أذناي الصغيرتان وهي تنساب بسخاء بارد عل أفواه الرؤساء والحكام والزعماء العرب، إلى فلسطين حقا؟ أم أعادتنا إليها القدس بعنف جرحها وجراحها؟.
بدءا من نقطة عبور السلطة الفلسطينية عند جسر الحسين ومرورا بشارع عمان، دخلنا جغرافية الزمن الفلسطيني المدجج والمدبج بالقتل والاحتلال والقمع والتهجير، فهمس لنا السائق مشيرا بأصبعه (هذه المدينة تدعى أريحا، إنها أخفض بقعة في العالم) فتناثرت في ذهني (نجوم أريحا)*،ثم بادرته بالسؤال عن ” عين الديوك” وعن شارع الزهور.. عن المغطس وكتف الوادي، عن جبل قرنطل وقصر هشام وعن … وعن… الخ. فوقعت تحت سطوة المشاهدة والمعاينة المعيشة. كم هو قاس من الناحية الجمالية مقارنة متعة القراءة لأمكنة متخيلة ومطابقتها مع المشاهدة لنفس الأمكنة الورقية المقروءة.
“أريحا”، تعني بالكنعانية (القمر)، وهي مدينة تشبه جغرافيا بدر التم، أو هكذا بدت لي ببساتينها ونخيلها الشامخ الشاهد على انخراط المدينة في المدنية والتاريخ، فأريحا موطن السيد المسيح في جبل قرنطل، وقلعة النضال الفلسطيني ضد همجية اسرائيل،. ينطقها الفلسطينيون “ريحا” مع حذف الهمزة فترادف بذلك المعنى السرياني (الرائحة والأريج).
تقول لنا “أم سامح” في سياق الحديث عن عتبات المنفى التي تعددت بالنسبة للفلسطيني (هناك لا أحد يعرفني… في الكويت.. في أمريكا.. في ٠. في .. هنا يعرفني الماء والتراب والحجر وبرتقال ريحا أيضا).
في أريحا تنفتح للزائر القلوب والبيوت التي يستقبلك فيها الجرح الفلسطيني بزهو وفرح.. وانكسار شامخ… وتسر إليك الجدران بتمنع وإباء، عذاب ليل فلسطين الحالك والطويل.
في إحدى الجلسات العائلية الحميمة، التي زادتنا حبا وعشقا لأهل فلسطين، يدخل علينا رب البيت بصمت متواضع، يشير إلى صورة معلقة وسط جدار البيت (هذه الصورة لأبي، اشتريتها من الخردة إثر عودتي بعد الاتفاقية، إنها الشيء الوحيد الذي تبقى من عفش منزلنا)، ثم انسحب كما دخل، تتسارع نبضات قلبي عند سماع كلماته، أحاول أن أفهم، أن أدرك منطق الأشياء، فيضيع مني كل شيء سوى عبثية الحدث ودراميته، فما معنى أن يشتري فلسطيني صورة أبيه التي سرقت منه “بالشيكل” وأن يشتري سراب سلامه (استسلامه) بأجزاء من وطنه.
كانت “أريحا”ورام الله”فضاء جميلا لاحتضان أشغال ملتقى الإبداع النسائي الذي انعقد بمبادرة طيبة من الكاتبة الفلسطينية ليانة بدر، وكان فرصة للقاء والتعارف بين المبدعات الفلسطينيات وغيرهن من العربيات اللواتي جئن من المغرب وتونس والعراق.. وكان لحظة تحقيق المزاوجة بين متعة الإنصات للإنشاد الشعري (الشاعرة الكبيرة فدوى طوقان، ليانة بدر، فيحاء عبد الهادي ومنال النجوم) وفتنة الاستلذاذ بالرؤية ومشاهدة عروض مسرحية (نهاد الورد، سامية البكري، وفرقة عشتار)، فضلا عن الندوات النقدية التي تمحورت حول المنتج الأدبي النسائي (حسن خضر، إلهام أبو غزالة، رشيدة بنمسعود، فيحاء عبد الهادي..).
ولقد اختتم الملتقى أشغاله بقراءات قصصية وشهادات (ليانة بدر، نافلة ذهب، منال النجوم، فلورا سطفان… إلخ). وشاءت الأقدار أن نعيش لحظة حزن بسبب رحيل رمز من رموز الحركة النسائية الفلسطينية (السيدة سميحة سلامة الخليل)، وأن ننصت بفرح غامر إلى تجارب شبابية واعدة (منال النجوم، ديمة وهالة السكاكيني).
في رام الله ترحب بك كل البيوت الكنعانية الأنيقة القائمة على أساسات من الصمود والإصرار على البقاء العنيد المنبعث من عذابات الحزن وبسمة الأمل، وفي بيت لحم يشهد التاريخ على نبل التسامح الديني.. مسجد عمر (رض) قبالة كنيسة المهد كبديل حضاري عن العنف التاريخي الأعمى.
في طريقنا من رام الله إلى القدس يزداد الإحساس ويتقوى اليقين بأن الاحتلال الإسرائيلي لا يزال متجذرا في الوطن الفلسطيني كما يتجذر الوجع عميقا في النفوس، فالمستوطنات ورم خبيث يسري في جغرافية فلسطين، يحاصرها ويكتم حدودها بالحواجز الكثيرة التي لا تسمح للمواطن الفلسطيني القادم من أريحا ورام الله من دخول القدس إلا بتصريح إسرائيلي جائر، يشهد على غربة الفلسطيني في وطنه.
في أزقة القدس الشرقية نقرأ على أحد الجدران : (وقف المغاربة) فنحس بأن المغرب في قلب القدس كما القدس في قلوب المغاربة، وداخل قبة الصخرة والمسجد الأقصى لا يسعك جلال المكان إلا أن تسجد خشوعا لهذا المصلى، فوق جبل الزيتون (طور) المجاور لجبل المكبر لا تشعر إلا وأنت تكبر مفتونا بسحر القدس وذاكرة المكان، فهل هناك من أمل أن يقتدي الحكام العرب ببطولات الأجداد في مواجهة خطر تهويد القدس الشريف، الذي يتأكد لك بالملموس وأنت تتجول في أزقتها.. حجم الخروقات التهويدية والإهمال الذي يطال المنطقة الشرقية من مدينة القدس.
في الواقع وأمام المناورات الإسرائيلية التي تدعي زورا رغبتها في صنع السلام ملوحة له بيد معطوبة وبيد أخرى ماكرة ومخادعة.. تزرع المستوطنات يمينا وشمالا وتهدم بيوت المواطنين الأبرياء.. وتغتصب المزارع والحقول وتدمر النفوس.. مما يجعلك تزداد اعتقادا بسوء نواياها اتجاه السلام.
يقول محدثنا: ” إننا والحمد لله أحسن حال مما كنا عليه في السابق.. لكن، بيننا وبين إسرائيل جداول من الدم.. لا يمكن لأي فلسطيني أن يغفر لها ما اقترفته من مآس وجرائم في حقنا…. الشرخ عميق في النفوس وأثر القمع موشوم على أجساد الصغار قبل الكبار، والأرض مسلوبة منا، أي سلام يمكن أن يقوم بيننا وبينهم في ظل شروط الاحتلال اللا متكافئة”.
يمثل صوت هذا الفلسطيني الذي ذاق مرارة المنفى وعذابات الاحتلال توجسا مشروعا من اتفاقية السلام التي جاءت بخيبة الآمال وانكسار طموحات الشعب الفلسطيني، وانطلاقا من موقع المسؤولية ترى بعض الجهات – من خلال الواقع الفلسطيني- أن مسار السلام صعب والمستقبل مجهول والمهام ثقيلة.
إن الحقيقة الغائبة عن تعقيدات القضية الفلسطينية تجعل البعض أمام انسداد الآفاق، يتحسر ويندم على ضياع الفرص الثمينة وطرح السؤال التالي: هل فعلا ضيعت فلسطين موعدا لها مع التاريخ خصوصا في حرب 1948 عندما وقف العرب أجمعين ضد مشروع اتفاقية سلام تدعو إلى تقسيم فلسطين ومنح إسرائيل 20% فقط من الأراضي الفلسطينية.
● اًعتقد أن فلسطين الآن هي في أمس الحاجة إلى الدعم العربي من أجل إنعاش اقتصادها وتشجيع الاستثمار بها، كما أنها في أمس الحاجة إلى فتح جسور التواصل بينها وبين العواصم العربية لتكسير العزلة الجغرافية وكبح جماح سياسة التطبيع… وصدق المسؤول الفلسطيني الذي قال عند توديعنا : ” بدنا دعم عربي”.
خاص لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن
عذراً التعليقات مغلقة