في التربية المُواطِنة
الأندراغوجيا استدراك على ما لم يدرك
د.فدوى أحماد
كاتبة من المغرب
الأمية ظاهرة اجتماعية سلبية منتشرة في عديد من البلدان الفقيرة أو السائرة في طريق النمو، ووجودها دال على مس بحق من حقوق المواطنة، وهي نتيجة من نتائج الحرمان من الحق في التربية والتعليم.
إن استفحال الأمية بمستوياتها الأبجدية والوظيفية والحضارية يؤثر دون شك على التنمية الإنسانية، خاصة في ظرفية يشهد فيها العالم تطورا متسارعا ومذهلا في المجال الفكري والمعلوماتي.. ومن ثم فإن تعليم الكبار أو الأندراغوجيا هو ضرب من استدراك لما لم يدرك.
وفي هذا الإطار، يؤكد خبراء الأندراغوجيا أنها ضرورة ملحة تتطلب تخطيطا وبرمجة وبناء استراتيجيات مكيفة وملائمة لفئة الكبار من أجل تكافؤ الفرص وتأهيل المواطنين لاستيعاب عالمهم سواء في البلدان التي ينتمون إليها أو في عالم أكبر أصبح الآن قرية.
الأندراغوجيا: مدخل مفهومي..
الأندراغوجيا أو “تعليم الكبار”: هو تعليم يقدم إلى فئات؛ منها من أنهى المرحلة الأولى من التعليم الذي بدأه في سن الطفولة، أو الذي لم يسبق له مطلقا المرور بهذه المرحلة الأساسية.. والأندراغوجيا استراتيجية تدريسية خاصة بالكيفيات والإجراءات الممنهجة في إطار مشروع تربوي، يهدف إلى إحداث تغييرات إيجابية في كفايات ومهارات وسلوكات الكبار واتجاهاتهم تعليميا ومهنيا و اجتماعيا.. وهذه الاستراتيجية التي تستدرك ما لم يدرك، تهدف إلى تحقيق تأهيل معرفي وسلوكي، وتيسير الولوج إلى سوق الشغل، وتأهيل المستهدف لتحمل مسؤوليته الأسرية والمجتمعية في إطار المعنى الحقيقي للمواطنة في أبعادها العامة.
وغير خاف على المتتبع المهتم أن مفهوم الأندراغوجيا قد توسع ليشمل محاربة أنماط من الأمية:
كالأمية الأبجدية التي تعني العجز عن القراءة والكتابة وكل العمليات ذات الصلة بالعد أو الحساب أو الكلام السليم..، في حين أن الأمية الوظيفية تعتبر هي عدم قدرة الفرد على معرفة واقع بلده ومؤسساته وإداراته ومختلف القطاعات ذات الصلة بالتنمية..
وتبقى الأمية الثقافية بمعنى أصح ، هي الفقر الثقافي – ثقافيا – والتدني في المستويات المعرفية، مما يكونُ له تأثير واضح في عجز المواطنين عن المشاركة الاجتماعية المطلوبة.. في المقابل تكون الأمية الفكرية بحسب تعاريف الخبراء والمختصين هي الجمود الفكري والعجز عن الإبداع والابتكار، أما الأمية العلمية، فتتجسد في عدم القدرة على مسايرة التطور العلمي والمعلوماتي .
أما الأمية المهنية: و تعني عجز الأشخاص عن أداء مهماتهم وأعمالهم بما يضمن جودة في المردودية ومساهمة في الانتاجية المطلوبة..
وتكون الأمية الاجتماعية: وتعني عجز الأشخاص عن المساهمة في التواصل والاندماج الاجتماعيين..
● الأمية الحضارية: وتعني الركون إلى أنساق ماضوية غير قادرة على فهم واستيعاب المستجد في عصر موار بأحداث علمية وسياسية واجتماعية ..
● الأمية التكنولوجية: وتعني عجزا عن استخدام الوسائل التقنية الحديثة، والمحمولات الرقمية، وأنماط مبتكرة من التواصل ذي الجودة العالية المعقدة والميسرة في الآن ذاته ..
الأندراغوجيا: مسير مغربي..
يعد المغرب من الدول التي انتبهت إلى مخاطر تفشي الأمية منذ الحصول على الإستقلال، ولا تكاد فترة من الفترات المعاصرة تخلو من وجود مخططات رسمية أو مدنية ساهمت في خفض منسوب الأمية؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر، لما أطلق الملك الراحل محمد الخامس في بدايات الاستقلال حملة المليون مستفيد من برنامج نموذجي ورائد لمحاربة الأمية..، وفي ذات السياق اضطلع قطاع التعاون الوطني بهذه المهمة الجليلة ..وتكلفت الوزارة المكلفة بالشؤون الاجتماعية سنة 1991 بهذه الاستراتيجية التعليمية الموجهة للكبار..ليتعمق العمل في هذا المنحى على يد مديرية محاربة الأمية بوزارة التشغيل والتكوين المهني سنة 1997..ليتوج مجهود المغرب في محاربة الأمية بحصول جمعية البرزخ بطنجة على جائزة أحسن مشروع في الأندراغوجيا قدمته في إطار مباراة دولية بمبادرة من منظمة الألسكو.(*)
● استحداث كتابة الدولة لدى وزارة التربية الوطنية المكلفة بمحاربة الأمية والتربية غير النظامية التي أرست الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الأمية ..
● عودة تدبير ملف محاربة الأمية لمديرية محاربة الأمية بوزارة التربية الوطنية قبل انطلاق عمل الوكالة الوطنية لمحاربة الأمية..
● حصول المغرب سنة 2012 على جائزة كونفوشيوس التي تمنحها المنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة يونسكو..
تقويم واستشراف..
انتقل العمل في المغرب في إطار محاربة الأمية من صيغته الطوعية إلى بناء استراتيجي موسوم بمنظور منهجي ومعايير تقويم..
● انبنى العمل على قاعدة الشراكة والتعاون مع كل الأطراف المعنية خاصة وزارتي التعليم والتشغيل.
● حققت برامج محاربة الأمية نتائج لا يمكن الاستهانة بقيمتها كما وكيفا في مجالات جغرافية شملت جهات المملكة كلها.
وعلى الرغم من المجهودات المبذولة في هذا المجال فإن ما تم إنجازه لا يرقى إلى المستوى المطلوب، حيث مازالت فئات واسعة تعاني من هذه الحاجة الحيوية ذات الصلة ببناء المواطنة، ومن ثم فإن الحاجة ملحة في أن تصبح الأندراغوجيا استراتيجية ضمن مناهج ومقررات التكوين لدى وزارتي التعليم والتشغيل، كما أن مجالس الجهات والجماعات مطالبة بالانخراط المسؤول في استراتيجية محاربة الأمية بمستوياتها.
وأما الإعلام فإن مسؤوليته جسيمة في إنارة عقول الناس وأفهامهم بالحقائق دونما مبالغة ، فالخبر كما يقال مقدس والتعليق حر..
ولعل جائحة كورونا قد كشفت بما يكفي أنماطا من الخلل في الوعي والمسؤولية وهو ما أشار إليه، وأكده الخطاب الملكي الأخير بمناسبة الذكرى الـسابعة والستين لثورة الملك والشعب عندما قال جلالة الملك محمد السادس حفظه الله :
“..فهناك من يدعي بأن هذا الوباء غير موجود؛ وهناك من يعتقد بأن رفع الحجر الصحي يعني انتهاء المرض؛ وهناك عدد من الناس يتعاملون مع الوضع بنوع من التهاون والتراخي غير المقبول.
وهنا يجب التأكيد على أن هذا المرض موجود؛ ومن يقول عكس ذلك، فهو لا يضر بنفسه فقط، وإنما يضر أيضا بعائلته وبالآخرين.”..
(*) جمعية البرزخ، تأسست بطنجة في غضون سنة 1998 بمبادرة من الأساتذة عسو أمقران، عبد الغفور البقالي وعبد اللطيف شهبون.
خاص لصحيفة قريش- لندن
عذراً التعليقات مغلقة