جغرافية الكتابة في ”مغيب شمسي” للقاصة فاطمة الشيري

8 سبتمبر 2020
جغرافية الكتابة في ”مغيب شمسي” للقاصة فاطمة الشيري

د.جميلة رحماني

جميلة رحماني

ناقدة من المغرب

دخلت القاصة فاطمة الشيري معبد السرد بعد أن غادرت الشعر؛ وهي تلامس جوهر القضايا الإنسانية وتركز على الذات، مبرزة انشغالاتها باعتبارها سيدة المقام في الكتابة الإبداعية. هذه الذات المشبعة بالواقع الذي غدا مؤطرا لفعل الكتابة لديها. فجاءت نصوصها السردية منصة لإيقاع نبض المجتمع، ومخلخلة للسياقات المتجذرة التي تسهم في استمرار الوضع. نصوص سردية تسأل عن أحلامٍ “بأي ذنب قتلت”، وعن آمالٍ “لأي يوم أجلت”. فلا غرابة أن تكون الكتابة عندها، والكتابة السردية بالخصوص ” هوس… عشق سرمدي لاينضب، كلما ارتشفته، أعطاك أكثر وأكثر. الكتابة المرهم أو الترياق الذي يجعلك تنسى كل شيئ حتىذاتك….. وهي من جعلتني أعلن عشقي للحياة من جديد” (2).

شعرية العتبات في المجموعة القصصية ”مغيب شمسي”

تراود المتلقي في المجموعة القصصية ‘مغيب شمسي” للقاصة فاطمة الشيري مؤشرات قرائية، تسيل على عتباتها. فتوشحها بتأويلات جمالية يغرس العاشق للفرضيات فيها أنوف لباقته وجهبذته، ليجس نبض ما اختلج فيها من نبوءات وفتوحات، ما دامت عتبات النص : ”بيانات لغوية وأيقونية تتقدم المتون وتعقبها لتنتج خطابات واصفة لها تعرف بمضامينها وأشكالها وأجناسها وتقنع القراء باقتنائها” (3). ومرفقات تحيط بالنص لا تقل أهمية عن المتن، يستعين بها المتلقي في استنطاق النص وتأويله. ويكون لها في الغالب الدور الحاسم في توجيه القراءة، والتأثير على صاحبها. كما تمنح النص هويته، وتجسد ملامح اختلافه عن غيره من النصوص. 

وأول ما يثير الفضول عنوان المجموعة القصصية الذي ارتضته قاصتنا ((مغيب شمسي))؛ هذا العنوان ”المشاكس بطبيعته”، الاسمي المنساق إلى الركون والركود، الممازح بتلقائيته المخيلة، المستنهض لآلاف الأسئلة في رأس القارئ. عنوان قادر على إشعال فضوله ومشاغبته بهدوء، داعيا إياه إلى ولوج مغاليق النص. عنوان يتمتع بالوظيفة الإغرائية إذ لا يبوح بشيء بقدر ما يحدث تصدعا في البنية المفاهيمية لدى المتلقي، لأنه يحمل سرّا خفيا، وينضوي على مفارقة مغيب شمس/بزوغ فجر. كأن التي غابت هي شمس القاصة، وهذا غير ممكن، مادام الغياب يعني الأفول. ولكن الغياب الذي تعنيه القاصة وتقصده هو (مغيب شمس) الذي يتلوه بزوغ فجر يوم جديد، حافل بكل ما هو مثير وجميل، وبِوَهَجٍ كبير. بزوغ سيستمر ويدوم ما دام قلمها ينبض، وحرفها يستنشق عبق الحرية.

وعلى ترامي المجموعة القصصية لا تبرح  تعلن عن اجتراحها كتابة السرد بدءا من التقديم الذي قدمت به مجموعتها كنص مواز خارج المحكي لدعم نسيج النص السردي، لتحقيق مجموعة من المخرجات الجمالية بفعل القراءة والتلقّي، ومن ثم يحظى بتداولية واسعة، دون العودة إلى مبدع آخر له وزنه، تقديم تولت أمر كتابته بنفسها. لأنها  ”تهتم بتقديم وجهة نظر دلالية ذاتية تساعد المتلقي على إنتاج قراءة جيدة للعمل. إن هذا التدخل التأويلي من قبل المؤلف، لا ينبغي أن يأخذ مظهرا دغمائيا متمركزا حول ذات متعالية مبتهجة بإنتاج المعنى الحقيقي” (4). وإن كان أمرا مشروعا جدا لمن يؤلف كتابا، فهو أثقل حين يتعلق الأمر بالإبداع. كما جاء في قولها: ”مغيب شمسي، مجموعة قصصية، نسجتها من خيوط خيالي، لحظة انزوائي محلقة في عوالم بعيدة. شخصياتها غريبة أما مشاعرها قد تنوعت من وله، حب إلى مآسي الزمان، وما أعايشه في حياتي اليومية. فأمسك ببداية حروفها فأقتادها إلى المعتقل. اليوم قررت نشرها تحت عنوان مغيب شمسي فإذا بها تشرق من جديد معلنة بزوغ فجري.” (5). وبتقديمها هذا تكون قد حرمت القارئ متعة اكتشاف خفايا نصوصها القصصية، ولذة البحث عن الفرضيات والدلالات التي قد تنطوي عليها. 

تمظهرات الذات وبنياتها المتمزقة

وإذا سألك متعبد في محراب السرد عن مناسك كتابة القصة القصيرة جدا فقل أن ريشة القاصة فاطمة شيري تبتل بمداد محبرة واقع متناقض الوجوه، لتنقل شيئا من مرارته إلى السرد، وترسم كواكبه من الحروف الناضجة على لهيب نيران الذات، أعني الذات التي تعيش الألم والغربة معا. تقول في قصة ”أنقذها” ”جف نبع أفكارها. ضاق البياض بصفائه. فاستشهد قلمها. ليسيل حبرا. ارتوت منه الأفكار. فأبدعت.” (6)وتُركع الحياة أمام الانهزامات المتتالية التي لا تتوقف؛ حتى تصل بالقارئ عبر أمواج النص المتلاطمة إلى حافة صرخة عظمى دوّى بها فضاء نصوصها القصصية؛ ويهتز لها العالم الداخلي، ويردد صداها في فضاء النص المغلق بكليته. تقول في قصة ”القصة الومضة””اختزلت نصوصي، لما امتطيت صهوة القصة الومضة. استعملت التكثيف، والإيحاء، ومفارقة أنهيتها بقفلة محكمة. تغير نمط حياتي، طغى عليه الاختصار” (7). تحاول قاصتنا جاهدة إيصال القصة إلى مراميها بتوظيفها لعنصر التكثيف؛ باعتباره عنصرا مهما في قيام القصة القصيرة جدا، واختزال أحداثها، وتلخيصها، وتجميعها في أفعال رئيسة وأحداث نووية مركزة بسيطة في رقعة طبوغرافية محددة. لتوافق القصة القصيرة جدا مع مقولة “النفرى”: “كلما اتسعتْ الرؤية ضاقت العبارة”، لكن ضيق العبارة لا يعنى حتما صغر الحجم وقصر العبارة، كما يفهم البعض. فهل اتسعت رؤية فاطمة الشيري في ظل تحقيق السمة الأساس في القصة القصير جدا وهي القصر الشديد. 

إن اقتراف قاصتنا لفعل الكتابة كان قصد تشريح وضع الذات الكاتبة/الساردة، ومن ثمة تشكيل نص سردي على مقاس جغرافية السرد وخصوصياته. فجاءت مجموعتها القصصية ”مغيب شمسي” معلنة شهادة ميلادها في عالم السرد. حيث تبحث القاصة فاطمة الشيري عن حروف تقاطرت على ضفاف شفتي السرد كالبلسم، لتنعش سرائر لهفة قلبها الولهان المفتون بالغوص في حقول البوح، تقول في قصة ”سافرت” ”حضرت أمسية للشعر. استمتعت بما سمعت. حلقت مع حروف البوح. اختفت عند الخروج” (8). وتبث لواعجها التي انتظمت في عقد سردي، تنفثها في سمع المتلقي ليتنفس نسيم البوح التوّاق إلى عبق الحرية. وهو ضجيج كتب بماء الحلم، ورحيق الحرية، ونسغ الأمل.

ونحن نتصفح نصوص المجموعة القصصية قيد الدراسة وهي ترسم خارطة طريق نثرية خاصة بها في جغرافيا الكتابة، بالعزف على إيقاع الذات المتبرمة الحزينة، ندرك عطب الأمنيات في واقعنا، فنتعلم كيف نمسك جمرة الصمود. ففي حضرة إبداعٍ لَيْلُه يتوسد نياشين عشق دفين؛ ونهاره يدعك ثوب أمنيات وطن جريح، تتحفنا الكاتبة بهسيس مداد يشنف كياننا بقطع فسيفساء حول الحب فيندلق المعنى على أفق السمو والسحر. تقول في قصة ”البوح”: (انضمت النفس للشجن. باليأس شعرت. تبلور الإحساس. فهمس الحرف.) (9). فألغت فكرة التعامل مع الكتابة كمتنفس لها، لأنه تسطيح ينال من هيبة الإبداع الذي هو مكابدة لاقتطاف المعنى وربط الأفكار والأحاسيس وقنص الجمال.

فلا مناص أن كل حرف في نصوصها السردية يحمل مشاعر حقيقية، وكل كلمة يجدها القارئ قد وضعت في مكانها دون إجحاف، وكل جملة فيها من الإيحاء والتكثيف الشيء الكثير. كما تستمدّ شخصياتها من الواقع، وتنقل بصورة درامية أحداثاً قد تحدث ويتقبَّلها العقل على أرض الواقع، لتكون نصوصها السردية مشرعة على تفاصيل الحياة بكلمات حائرة تضمد جراح العمق والإحساس بالتمزق، تقول في قصة ”تحدي”(اشتاق لكلمات الحب. حاول استرجاع كتابتها.انهار القلم. فغيره) (10)نصوص سردية تغوص في دواخل الذات الإنسانية مستحضرة عدداً من مكونات النسيج الاجتماعي، بدءاً من طوفان العلاقة المتأصلة في الأسرة، ومرورا بمبادئ العنفوان والحق في الحياة، وصولا الى ما طرأ من شذوذ على السلوكات الإنسانية، مع تعرية بعض المواقف فيها التي جاءت وليدة جشع وطمع ومصالح آنية. 

كما نستشف عبر لغتها الحكائية واقعا مهيمنا بقضايا إنسانية تثير عدة إشكاليات تتطلع للطموحات التي يسعى إليها السارد قصد مسح ضبابية الواقع وسواده، وتحريره من ضيق الأفق، تقول في قصة ”انتظار”: (قرأت عبارة الوداع، على صفحة المحادثة واضحة. تفحصتها، تأثرت سال حبر قلمها على بياض الصفحة، من حرقة العيش حضنها بكلماته. جلست تنتظره) (11). إنها أناملها التي اتكأت على عكاز القلم كلما اشتدت ريح الاشتياق إلى ظل الأحبة منبع الرحمة، ومهد المحبة. فهي تمتلك  طريقتها الخاصة في تشكيل نصوصٍ سردية تمتطي صهوة الألم، فتغزل باللغة قلق الذات؛ التواقة إلى الأمان تقول في قصة”الحياة”: (تحملت من الهموم ما أرقت ليلها. أتعبت نفسها. وزعتها على شجرة العمر. فاصفرت أوراقها، للمتبقي من الفصول) (12).

فبين رفات من أمنيات سحيقة تنقب الذات عن خلاص، عن فجوة ظل تسكب تباشير شمس وفية تداري اختناقا وثقلا؛ للخروج من ثوب الأحزان والآلام التي نسجتها الظروف المؤلمة. كما في النص الموسوم بـ: قصة ”صراع”: (رق قلبها عشقا، رفض عقلها منطقه، حاولت السيطرة عليه، أصر، لم يسمح لها حتى بالتفكير فصلت الرأس عن بقية الجسد، دخل في صمته الأبدي) (13)،  فأضحت نصوصها القصصية مرآة صافية تنعكس عليها وجه المجتمع وتفاصيله، تصوِّرُ مسراته وأحزانه، تكشف عن تأملاته، وترسم الرؤية المتذمرة من راهن معطوب، ونزفه الذي لا ينقطع. تقول في قصة ”لمن تقرأ”: (ألقت كلمتها بعباراتها المنمقة، نطقت حروفها من مخارجها السليمة، ضبطت شكلها، لم تلاحظ استجابة، ولا تعليقا، جليس مجلسها أصم) (14). فتسعى قاصتنا لمقاربة موضوعات عميقة وجادة تغرف واقعيتها وحرقتها من معين الذات والمعيش والوجود، واختراق مدارات القوة في معالجة كل ما يؤرق الإنسان وكل ما يشغله، والكشف عن مَواطن الشروخ المجتمعي، والنفسي، والثقافي.

على سبيل الختم

”مغيب شمسي” نافدة على روح صافية خصبت بوحا صادقا سهلا حينا وممتنعا أحايين كثيرة، وهو صنيع قاصة تريثت كثيرا قبل أن تتحف المتذوق للكلمة بحرفها الذي ما فتئ يشتعل ليؤجج جوهر عطاء يسمو بالقيم، ويمجد الحرية، ويشرع حق الحلم ويقدس إنسانية الإنسان. 

هوامش :

1-     فاطمة الشيري، مطبعة طوب بريس، 2014.

2-     يحي زروقي، الولي الصالح، مطبعة الجسور، وجدة، الطبعة الأولى، 2016، ص 5.

3-    يوسف الإدريسي، عتبات النص، بحث في التراث العربي والخطاب النقدي المعاصر، منشورات مقاربات، المغرب، الطبعة الأولى، 2008، ص 15.

4-    نبيل منصر، الخطاب الموازي للقصيدة العربية المعاصرة، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2007، ص 73.

5-    فاطمة الشيري، مغيب شمسي، ص 15.

6-    المرجع نفسه، ص 69.

7-    المرجع نفسه، ص 54.

8-    المرجع نفسه، ص 94.

9-                  المرجع نفسه، ص 67.

10-             المرجع نفسه، ص 91.

11-             المرجع نفسه، ص 79.

12-             المرجع نفسه، ص 21.

13-             المرجع نفسه، ص 23.

14-             المرجع نفسه، ص 37.

الدراسة النقدية خاصة لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com