سيرة جيمس بيكر.. المطرقة الفولاذية وصحن الحمص

16 أكتوبر 2020
سيرة جيمس بيكر.. المطرقة الفولاذية وصحن الحمص

صبحي حديدي

لعلّ سيرة بيكر حافلة على صعيد ربع قرن من الحياة السياسية الداخلية في أمريكا المعاصرة، وأمّا العالم خارج المحيط فقد تكون أوضح خلاصات دبلوماسية بيكر هي السفارة الأمريكية في القدس المحتلة، أو إقرار ضمّ الجولان المحتل إلى الكيان الصهيوني

الفصل 29 من الكتاب يتناول التقرير الشهير حول أوضاع أمريكا في العراق ما بعد «عاصفة الصحراء» والذي أعدته «المجموعة الدراسية عن العراق» بتكليف من الكونغرس في آذار (مارس) 2006، برئاسة بيكر وزميله الديمقراطي لي هاملتون. وهو فصل يسعى، هنا أيضاً، إلى تجميل صورة بيكر وتضخيم دوره ومهاراته الدبلوماسية؛ لكنه، بذلك، يجمّل التقرير ذاته ويختزل مفاعيله الأمريكية والعراقية والإقليمية على نحو فاضح. على سبيل المثال، التوصية رقم 15 التي تحثّ إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن على فتح حوار مع النظام السوري بصدد حلّ مشكلات العراق؛ تطالب النظام بتنفيذ ما يلي، ونقتبس حرفياً: 1) التزام سوريا التامّ بقرار مجلس الأمن الدولي 1701 لشهر آب (أغسطس/آب) 2006، والذي يؤمّن الإطار لاستعادة لبنان سيطرته السيادية على كلّ أرضه.؛ 2) تعاون سوريا التامّ في كلّ التحقيقات الخاصة بالاغتيالات السياسية في لبنان، خصوصاً اغتيال رفيق الحريري وبيير الجميل؛ 3) الإيقاف الفعلي للمساعدة السورية لـ «حزب الله» واستخدام الأراضي السورية لنقل الأسلحة والمساعدات الإيرانية إلى «حزب الله» (وهذه الخطوة سوف تساعد كثيراً في حلّ مشكلة إسرائيل مع «حزب الله»)؛ 4) على سوريا استخدام نفوذها لدى «حماس» و«حزب الله» من أجل إطلاق سراح جنود قوّات الدفاع الإسرائيلي المختطفين؛ 5) الإيقاف الفعلي للجهود السورية الرامية إلى نسف حكومة لبنان المنتخَبة ديمقراطياً؛ 6) الإيقاف الفعلي لشحنات الأسلحة من سوريا، أو عبر حدودها، إلى «حماس» وسواها من المجموعات الفلسطينية الراديكالية؛ 7) التزام سوريا بالمساعدة في الحصول من «حماس» على اعتراف بحقّ إسرائيل في الوجود؛ 8) بذل سوريا جهوداً أكبر لإغلاق حدودها مع العراق.
والمرء يتساءل، بادئ ذي بدء، أية مهارة دبلوماسية هذه التي قادت إلى تلك الشروط التعجيزية غير القابلة للتطبيق، شاء النظام أم أبى؟ وهل هذه ثمرة موافقة حافظ الأسد على المشاركة العسكرية في «درع الصحراء» حتى يُكافأ وريثه بشار بهذا العرض شبه المستحيل؟ وهل، حقاً، ذهبت هباء تلك الساعات الطوال من حوارات الأسد الأب مع بيكر في دمشق؟ ولو أنّ النظام وافق على تنفيذ نصف تلك الاشتراطات، فما الذي سيميّزه عن الأنظمة العربية التابعة علانية للولايات المتحدة، والتي لم يتوقف إعلام النظام عن هجائها، وأطلق الأسد نفسه على زعاماتها صفة «أنصاف الرجال»؟ ثمّ، في نهاية المطاف، وبالنظر إلى أنّ النظام «ليس جمعية خيرية» كما ردّد رجاله مراراً، ما الحوافز التي ستمنحها أمريكا في المقابل؛ خصوصاً وأنّ مجموعة بيكر ـ هاملتون اعتمدت مبدأ الترغيب والترهيب، في آن معاً؟ تلك سلسلة أسئلة لم تنتهِ إلى إجابات تنفع النظام السوري، بالطبع، رغم زيارات أمثال جون كيري ونانسي بيلوسي ووليام برنز وسواهم من ساسة أمريكيين زاروا دمشق بمهام رسمية أو مبطنة.
ولعلّ الخلاصة الأكثر دراماتيكية في التقرير، وبالتالي في حصيلة «سوق» الشرق الأوسط التي تجوّل بيكر فيها، إنما تتجسد في هزال توصيات التقرير حول موجة التبشير الديمقراطي التي عصفت بالمحافظين الجدد وانتقلت على نحو آلي إلى رجال الإدارة الأمريكية ونسائها؛ إذْ بدا وكأنّ تقرير المجموعة لم يعد يرى العراق فردوساً للديمقراطية، أو مُصدِّر جرثومتها المعدية إلى الجوار والمنطقة بأسرها. العكس هو الذي اتضح بين السطور، سيما تلك التي تتحدّث عن حوار مع سوريا النظام وليس مع سوريا الشعب أو المجتمع المدني (كما تعالت بهذا عقيرة وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق كوندوليزا رايس ذات يوم)؛ وعن حوار مع إيران الإمام الخامنئي ومبدأ ولاية الفقيه، وليس مع إيران الإصلاح وإيران التمدّن.
ولعلّ سيرة بيكر حافلة على صعيد ربع قرن من الحياة السياسية الداخلية في أمريكا المعاصرة، وأمّا العالم خارج المحيط فقد تكون أوضح خلاصات دبلوماسية بيكر هي السفارة الأمريكية في القدس المحتلة، أو إقرار ضمّ الجولان المحتل إلى الكيان الصهيوني، أو حتى مآلات اتفاقيات التطبيع المصري والأردني والإماراتي والبحريني؛ حيث يبيع السوقُ «السلام» وصحن الحمّص… معاً!

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com