نعام تشومسكي
ماهي مسؤولية المثقفين ؟
إهداء إلى الصديق المفكر المغربي د محمد الحيرش
ترجمة وتقديم : محمد العربي هروشي
في كتابه الجديد “مسؤولية المثقفين ” المكون من 132 صفحة والمترجم إلى الإسبانية من لدن Albino Santos Mosquera ،ضم تشومسكي بحثين مختلفين ،أحدهما يعود إلى حقبة الستينيات (1967) تحت لهيب حرب الفيتنام،أما الآخر فوقعه مباشرة بعد اغتيال بلادن عام 2011 ،في هذا المقال يوضح تشومسكي الدور الخاص الذي يتوجب على الخبراء القيام به.
إن مفهوم ” المثقفون “فضولي بما يكفي ،فمن هم الذين يمكن اعتبارهم كذلك؟
ها هنا سؤال أحيط بصيغة مؤسسة في بحث كلاسي ،حيث Dwight Macdonald كتب عام 1945 بحثا عنونه،مسؤولية المثقفين .
هذا النص مسخرة لا هوادة فيها تنتقد أولائك المثقفين المميزين الذين يفتون في شأن “المسؤولية الجماعية” للاجئين الألمان حين كان هؤلاء ،بالكاد على قيد الحياة بين الأنقاض الكارثية للحرب.
قارن Macdonald الازدراء المرئي الذي أبانت عنه كثير من الأقلام المختلفة إزاء هؤلاء المتبقين على قيد الحياة التعساء .
مع رد الفعل لكثير من جنود الجيش المنتصر المعترفين بإنسانية الضحايا ،يشفقون من معاناتهم، ومع ذلك فإن المثقفين هم في الصدارة وليسوا في المرتبة الثانية.
لخصMacdonald في بحثه بعبارات بسيطة: ( ما أروع القدرة على أن ترى الذي يوجد بالضبط أمامك) ،ماهي إذن مسؤولية المثقفين؟أولائك الذين يندرجون في هذه الصنافة يتمتعون بهذه الدرجة النسبية من الامتياز, والتي تمنحهم هذه الوضعية و تفسح أمامهم الفرص الكبرى مقارنة بالعاديين.
إن الفرص تحمل في طياتها المسؤولية فيما تستضمر في هذه الحال ،تقرير الاختيار من بين محاولات اختيارية ،شيء ما، أحيانا يستتبع صعوبات جمة .
هكذا فإن اختيارا ما ممكنا هو سبيل السلامة، يؤدي إلى حيث يؤدي ،أما الأمر الآخر فيكمن في إيقاف تلك المخاوف ،وتكييف ،بلطف ،التعاقدات المؤسسة من طرف بنيات السلطة.
إن العمل في الحالة الثانية هاته ،ينحصر في ضمان، وبإخلاص ،تعليمات أولائك الذين بأيديهم زمام الأمر ،بأن يصيروا خداما أوفياء ومخلصين،ليس كخلاصة لحكم مفكر فيه، و إنما من خلال جواب منعكس عن الامتثال ،هذه صيغة رقيقة لتجنب التعقيدات الأخلاقية والفكرية الجذرية لوضعية استجواب، وتحاشي النتائج القوية ،الأليمة لبذل الجهد لأن قبو سماء الأخلاق انتهت بالانعراج تجاه قضية العدالة.لقد تطبعنا مع هذه الأنواع من المبادرات،لذلك نميز بين مفوض الشرطة والأباتشيك (أعضاء جهاز الحزب الشيوعي الروسي ) و بين المنشقين الذين يخوضون هذا التحدي ويواجهون النتائج( نتائج تتغير وفق طبيعة المجتمع المعني ).كثير من المنشقين بلغوا صيتا واعترافا مستحقين ،أمام المعاملة القاسية التي تلقوها أو سيتلقونها، تم ذكرها حسب الأصول بحماسة وسخط : هناك فكلاف هافل ،أي و بوي ،شرين إبادي ووجوه أخرى تشكل قائمة طويلة ومميزة.أيضا لمن العدل أن نحاكم المنافحين عن المجتمع السيء ،أولائك الذين لا يفوتون فرصة توجيه النقد الفاتر” لأخطاء “،حكام نياتهم مؤهلة عالميا ومنهجيا لتصير حميدة .هناك أسماء أخرى، مع ذلك ،تنقص من قائمة المنشقين ،معروفون :المثقفون اللاتينو أمركيين الستة المرموقون و القسيسون اليسوعيون الذين قتلوا بوحشية بيد القوات السلفادورية، ،إنها معروفة بوفرة للذين تلقوا تعليمات عسكرية من الجيش الأمريكي للولايات المتحدة الأمريكية .وتصرفوا بأوامر محددة من لدن حكوماتهم الموالية للولايات المتحدة الأمريكية ،في الحقيقة بالكاد يتذكرونهم،فقليلون جدا الذين يودون معرفة أسمائهم أو يحتفظون بالنزر القليل من ذكرى تلك الأحداث.
إن الأوامر الرسمية باغتيالهم لم تصل لحد الآن،لأي من وسائط الاتصال في الولايات المتحدة الأمريكية ،ليس لكونها سرية:فقد نشرت بكل وضوح في أهم دوائر الإعلام الإسبانية مثلا .
لست أتحدث عن شيء استثنائي،يتعلق الأمر بدلا من ذلك ،بالمعيار،تلك الأحداث ليست منفصمة،إنها معروفة بوفرة من لدن الحركيين الذين احتجوا ضد جرائم بشعة مقترفة من طرف الولايات المتحدة الأمريكية،ومن طرف أيضا ،خبراء ممن بحثوا الموضوع .
عند أحد مداخل كتاب THE Cambridge History Of THE Cold War كتب John Coatsworth منذ 1960 إلى الانهيار السوفياتي عام 1990تجاوز عدد المعتقلين السياسيين و ضحايا التعذيب والمنشقين السياسين المسالمين من طرف أمريكا اللاتينية العدد المسجل بالاتحاد السوفياتي وعملائه بأوروبا الشرقية .
ومع ذلك فإن الباروناما ذاتها ترتسم، بالضبط ، معكوسة ،وفقا لتمظهرها في وسائل الإعلام ومجلات المثقفين ،ولأخذ مثال صارخ فقط ،من بين الكثير ،سأقول بأن إدوارد هرمان وأنا نفسي ،قمنا بمقارنة تغطية النيويورك التايمز التي أجرتها إثر اغتيال القسيس البولوني_ تم القبض على قتلته وتمت معاقبتهم بسرعة _ بتلك التي تمت في حق اغتيال مئة من الشهداء الدينيين بالسالفادور_ ضمنهم رئيس الأساقفة أوسكار روميرو وأربع متدينات أمريكيات_مكث جناتهم ،لوقت طويل ،مخفيين عن العدالة، في الوقت الذي كانت فيه سلطات الولايات المتحدة الأمريكية تنفي الجرائم، ولم يتلق الضحايا من حكومتهم رسميا سوى الازدراء.كانت التغطية الإعلامية لاغتيال القس في بلد عدو جد واسعة أكثر من مئة تغطية موزعة للشهداء الدينيين المغتالين بالدول الموالية للولايات المتحدة الأمريكية.وكان أسلوبها مختلف جذريا ،متناغما مع التنبوءات المرسومة ب “نموذج الدعاية “لتفسير وظيفة وسائل الاتصال.وهذا ليس سوى توضيح من بين العديد من التوضيحات الممكنة لما كان عليه نمط ثابت طيلة سنين عديدة فيمكن لمجرد عبادة السلطة ألا نشرح كل شيء،بكل تأكيد ،ففي مناسبات _مخيفة جدا _ يتوصلون إلى تسجيل الحقائق بالرغم من كونها مرفوقة بجهد تبريرها،ففي حالة الشهداء الدينيين ،حمل الصحفي المرموق نيكولاس ليمان المراسل الوطني ل The Atlantic Monthly وهي مجلة ذات خط تحريري ليبرالي (وسط يسار) حمل تفسيرا بديلا في جواب يبدو ساخرا لعملنا:يمكن لهذا التعارض تفسير بأن الصحافة منوطة فقط بالتركيز على أشياء صغرى ،في كل وقت معين،فيما كتب ليمان “و الصحافة الأمريكية كانت ،إذن ،مركزة فقط ،على بولونيا على نحو خاص .
إن أطروحة ليمان سهلة الرد متفحصين دليل النيويورك التايمز حيث يمكن ملاحظة أن زمن التغطية الصحافية المخصصة للدولتين، كان متطابقا في حالات عدة ،بل و أكثر بقليل بالنسبة للسالفادور.
ولكن ،طبعا ،في سياق ثقافي حيث ثمة مكان ل”حقائق بديلة ” ،جزئيات كهاته قلما تبدو مهمة.عمليا إن اللفظ المشرف “منشق “محفوظ لمن هم منشقون في دول الأعداء،فبالنسبة لمثقفي أمريكا اللاتينية الستة المغتالين ورئيس الأساقفة وآخرين كثر _مثلهم _يحتجون ضد جرائم الدولة في الدول الموالية للولايات المتحدة الأمريكية،قتلوا وعذبوا أو سجنوا من طرفهم لا يسمون ب”المنشقين “(فلا ذكر لهم حتى)،كذلك في الدولة ذاتها هناك إصلاحات مختلفة .كان هناك ،مثلا،مثقفون احتجوا ضد حرب الفيتنام لأسباب متعددة ،و لسرد جزء من الأمثلة الموضحة لمحدودية طيف الرؤية للنخبة ، انزعج الصحافي جوزيف ألسوب في ذات اليوم حيث التدخل الأمريكي كان جد محتوى ،في حين رد أرتور شليزنغر بأنه من المرجح أن التصعيد لن يكون وسينتهي بأن يكون مكلفا بالنسبة إلينا .
كتب باندي هذه العبارات عام 1967 في الوقت الذي كان فيه برنار فال ،بشكل مطلق ،مؤرخا عسكريا مضاد للشيوعية و متخصصا في الفيتنام يحظى بالاحترام الجيد من لدن الحكومة الأمريكية ،ومن دوائر الرأي المهيمنة،كان يخشى من أن تتعرض الفيتنام ،بوصفها هوية ثقافية تاريخية لخطر الإبادة(…)و الآن بعد الموت في الميدان كلية تحت تاثيرات أكبر الآليات العسكرية لم ينشر مثلها ضد وطن بهذه الشساعة”،لكن فقط، متوحشون بين هياكل” لديهم الجرأة للتشكيك في عدالة القضية الأمريكية .
عند نهاية الحرب عام 1975 قدم مثقفون من كل أصناف الرأي المهيمن تأويلاتهم لما حدث،شملت كل كتائب الطيف، ألسوب _شلينغر .من أقصى “الحمائم ” كتب أنطوني لويس بأن التدخل بدأ بسلسلة من المجهودات الخرقاء حسنة النية؟(خرقاء لأنهم فشلوا و “حسنة النية ” دون الحاجة إلى البرهنة )،بيد أنه بالرجوع إلى عام 1969 كان واضحا بأن التدخل كان خطأ،لأن الولايات المتحدة الأمريكية لم تستطع فرض حل إلم يتحقق فهو فادح في حد ذاته.
وفي الوقت ذاته وضحت الأصداء بأن حوالي 70 في المئة من الساكنة لم تكن تعتبر بأن التدخل كان “خطأ ” وإنما “جوهريا غير عادل وغير أخلاقي ” ،ولكن ،طبعا ،مثل هؤلاء الجنود لعام 1945 الذين كانوا متعاطفين مع معانات اللاجئين الألمان التعساء ،لم يكن المستجوبين مثقفين.فالأمثلة على ذلك تقليدية ،بلغت المعارضة ضد الحرب أوجها عام 1970 بعد احتلال كامبوديا تحت قيادة الثنائي نكسون _ كيسنجر.حينها،بالضبط ،أنهى شارل كادوتشين بحثا مسهبا لمواقف”مثقفي النخبة ” و اكتشف بالنسبة للفيتنام أن هؤلاء اعتمدوا موقفا “برغماتيا” للحرب باعتبارها خطأ انتهت بتكلفة باهظة جدا و “المتوحشون بين الهياكل ” لم يعودوا حتى من الخاسرين على هامش الخطإ الإحصائي .
كانت حروب واشنطن في الهند الصينية أكبر الجرائم ما بعد الحرب العالمية الثانية ، أما أفظع جريمة خلال الألفية الحالية تجسدت في الاحتلال البريطاني الأمريكي للعراق بأبشع النتائج على المنطقة كلها والتي لازال البلوغ إلى نهايتها يتطلب وقتا طويلا .إن النخبة المثقفة كانت عند مستواها المعهود هذه المرة .
لقد امتدح باراك كثيرا من لدن المفكرين اللبراليين من وسط اليسار لانحيازه إلى جانب “الحمائم ” ووفقا لعبارات الرئيس “خلال العشرية الأخيرة قدمت الجيوش الأمريكية تضحيات عجيبة لأجل منح العراقيين فرصة المطالبة بمستقبلهم” ولكن ” الحقيقة القاسية أننا لم نقف بعد على نهاية التضحية الأمريكية في العراق “، إن الحرب كانت خطأ عظيما” زلة قدم استراتيجية “.بكلفة أكثر من غالية بالنسبة إلينا.تقدير يعادل ما قام به يومئذ جنرالات الروس بصدد القرار السوفياتي للتدخل في أفغنستان.
يتعلق الأمر بقالب معمم.ليس هناك حاجة إلى تعداد أي مثال،حسنا ،هناك الكثير من الدراسات في هذا الصدد منشورة، وإن كانت لا تبدو أن لها أقل تأثير على هوية النخبة المثقفة .
انطلاقا من الحدود عبر الداخل ليس ثمة منشقين ولا مخبرين ولا أيضا، أعضاء الحزب الشيوعي السوفياتي.فقط هناك متوحشون وهياكل من جهة ،ومنشقون ومسؤولون معتبرون كخبراء حقيقيين من جهة أخرى.إن مسؤولية الخبراء كما فصل القول فيها أحد ألمع و أبرز أعضائها على هذا النحو ،يعتبر “خبيرا” حسب هنري كيسنجر حينما يحقق أحد ما إجماع جمهوره “على مستوى عال “(يقصد ب”الجمهور” أولائك الأشخاص الذين يؤسسون الإطار المرجعي الذي داخله ينجز (الخبراء الأشغال التي أوكلت إليهم ) .
إن هذه التصنيفات لتقليدية بما يكفي وترجع إلى الاستعمال المبكر للمفهوم ” المثقف ” في معناه المعاصر،طيلة الجدل الذي دار حول Drefusبفرنسا .إن الصيغة الأكثر تميزا من الدريفوسيين كان إميل زولا محكوما عليه بسنة سجنا بسبب اقترافه للعار حينما طالب العادلة في حق المتهم المزيف ألفريد دريفوس.ثم فر إلى إنجلترا تجنبا لعقاب عظيم .قد تم استهجان ذلك من قبل ” الخالدين ” في الأكاديمية الفرنسية.
كان الدرفوسيون أصيلين “وحوش بين الهياكل” كانوا مسؤولين عن “الشذوذ الأكثر احتقارا في زمننا” و لقول ذلك بعبارات الأكاديمي فرناد برونشير: ” وضع كتاب وعلماء أساتذة وفيلولوجيين و فلاسفة ” في مرتبة السوبرمان “قادرون ” على أن يتعاملوا مع جنرالاتنا كأغبياء ، ومع مؤسساتنا الاجتماعية بالعبثية ومع تقاليدنا بالجنون”
إن تدخل أوسبان في قضايا كان عليه أن يتركها لذوي “الاختصاص “ل “رجال مسؤولين “،لمثقفين تقنوقراطيين وبرغماتيين سياسيا ،طبقا لقراءات الترمينولوجيا(علم الاصطلاح ) المعاصرة للخطاب الليبرالي لوسط اليسار.كذلك ماهي إذن ،مسؤولية المثقفين ؟
دائما يمكنهم الاختيار .ففي الدول العدوة يمكنهم الاختيار ليصيروا مخبرين أو منشقين.فيما في الدول الموالية للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية ،في المرحلة المعاصرة ،فهذا الاختيار يمكن أن تكون له نتائج مأساوية لاتوصف بالنسبة لهؤلاء الأشخاص.في بلدنا يمكنهم الاختيار بين أن يصيروا خبراء مسؤولين أو متوحشين بين الهياكل.
بيد أنه ،دائما ،هناك الاختيار لاتباع النصيحة الجيدة لماكدونالد : “ما أروع القدرة على أن ترى ما يوجد بالضبط أمامك” ،وأن تكون لديك فقط ،الأمانة على أن تحكيه كما هو .
…………………………………………………………….
_ El pais/El Cultural 23/ 10 /2020
شاعر ومترجم وباحث /الحسيمة .المغرب
عذراً التعليقات مغلقة