أكرم مكناس
يُسجَّل للأنظمة الملكية رسوخها واستقرارها في وقت تعاني فيه الجمهوريات على اختلاف أشكال أنظمة الحكم فيها من هزَّات عنيفة بين الفترة والأخرى، ولا يمكن لمسيرة التنمية الوطنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أن تتواصل شكل مستدام إلا في ظل الأنظمة السياسية المُستقرِّة.
لقد كان المغفور له بإذن الله تعالى صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رجل دولة مؤثر وفعال، وأسهم على مدى أكثر من خمسة عقود في نقل البحرين إلى عصر الحداثة والتقدم، والتف حوله الناس الذين أحبهم وأحبوه، وشاهدنا كيف أن البحرين مؤسسات وأفراد حزنت كثيرًا على فراقه.
ورغم الحضور الكبير لسموه رحمه الله في المشهد البحريني، إلا أن أحدًا من المواطنين أو المقيمين أو المستثمرين لم يشعر بأي هزة مهما صغرت في النظام السياسي أو الاقتصادي البحريني لا في مراحل علاجه ولا عند وفاته طيب الله ثراه، بل استمرت المؤسسات الحكومية في عملها المعتاد وواصل الناس حياتهم الطبيعية رغم مشاهد الحزن والفقد.
وصدر الأمر السامي من جلالة الملك المفدى بتعيين صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيسًا لمجلس الوزراء وسط ترحيب الجميع، في إجراء مرتقب متوقع يعكس روح الدستور والتناغم السلس في تسلم المناصب العليا في الدولة، ويؤكد التقاليد الراسخة في الحكم والمستمرة منذ تأسست دولة البحرين على يد أحمد الفاتح في العام 1783 وحتى اليوم.
اكتب هذا المقال فيما أنا أتابع معضلة الانتخابات الأمريكية التي ربما تنذر بتمزق هذا البلد الذي لم أعهده بهذه الحالة من التشتت والانقسام من قبل، والجميع تابع ويتابع الأحداث هناك التي يمكنني وصفها بالمؤسفة والخطيرة لأنها تجري في بلد يتزعم العالم عسكريا ونوويا واقتصاديا وسياسيا، ويشهد انقسامات حادة بين سكانه، خاصة وأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لا زال حتى اللحظة مصرًا على عدم الإقرار بفوز منافسه جو بايدن، ولا أحد يستطيع أن يجزم كيف ستؤول الأمور، وما الذي سيحدث عند الساعة الثانية عشرة من ظهر يوم 20 يناير القادم، موعد مغادرة ترامب للبيت الأبيض وتسلم بايدن لمهامه رسميا، ولا يجب أن ننسى هنا أن ترامب حصل على أكثر من 70 مليون صوت، وأن هناك أكثر من مليوني مواطن أمريكي مسلح معظمهم من أنصاره، وهو عدد يفوق عدد أكبر جيش في العالم.
حتى في دول شبه ديمقراطية مثل ماليزيا وتايلند وباكستان تسيطر النزاعات الحزبية على المشهد العام للدولة، فالجميع محب للديمقراطية ومخلص لها طالما أنها وسيلته للسلطة، لكنه سرعان ما يقوم بتحريفها لخدمة بقائه في السلطة، والسيطرة على الجيش والقضاء والتعليم والإعلام، وتعديل الدستور إن لزم الأمر، وهنا تدخل البلاد في دوامة ما يمكن تسميته «العنف السياسي» الذي ربما يتحول إلى صدامات دامية بين الأنصار في الشارع، فتصبح البرلمانات ووسائل الإعلام والساحات العامة مكانًا للصدام والعنف، وتضيع التنمية ويفقد الناس الأمن والأمان والثقة بالمستقبل.
الصين أيضا دولة الحزب الواحد المسيطر على جميع مفاصل الحياة العامة للناس، بما في ذلك إلزامهم بإنجاب عدد محدد من الأولاد، لكن الصين تشهد مشاريع تنموية عملاقة، وارتفع مستوى حياة المواطن الصيني عدة أضعاف، وبات فيها عدد كبير جدا من المواطنين المليارديرات، وبكين استعادت مكانتها العالمية سياسيا واقتصاديا، بل باتت تنازع الولايات المتحدة زعامة العالم.
لا أريد أن يُفهم من كلامي هذا أنني ضد الديمقراطية، بل على العكس تمامًا، أنا مع الديمقراطية، ولكن الديمقراطية المسؤولية النابعة من تاريخ وثقافة وحضارة البلد، والتي تلبي تطلعات جميع مكونات الشعب، وليس الديمقراطية الناضجة المستوردة بمعاييرها الجاهزة، لأنها ستصبح كالقوي الذي يلقي نكتة ويفترض أن جميع الناس ستضحك عليها، وإلا يجب إلزامها بالضحك عنوةً.
في الجمهوريات العربية وصل الضباط مثل صدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافي وعلي عبد الله صالح إلى السلطة، وحكموا باسم الديمقراطية، وأمسكوا بتلابيبها بأيديهم وأسنانهم، وأفهموا شعوبهم أنهم أهل الحضارة والتقدم، وأنه يجب النضال من أجل التحرر من القبيلة أو القبلية والتخلف والرجعية، لكن التاريخ أثبت أن أنظمة الحكم الملكية أفضل بكثير من أنظمة الرعب الجمهورية التي بنوها في بلدانهم، وأن الاستقرار والتنمية المستدامة يقوم في دول مثل البحرين والسعودية والمغرب، فيما تغرق الجمهوريات في الفوضى، حتى دولة متقدمة نسبيا مثل تونس لا زال الاستقرار فيها نسبيًا، ولا زالت تعاني من التراجع الاقتصادي والبطالة.
أرجو ألا يزاود أحدٌ علي ويكرر أقاويل أن المشكلة في شعوب تلك الدول أو المؤامرات الخارجية عليها أو فساد حكامها وغير ذلك من الذرائع، فهذا نقاش سفسطائي عقيم لن يأخذنا إلى أي مكان، ومن يحاجج بذلك إما شخص لديه فائض من الطاقة على النقاش والتفكير غير المجدي، أو طامع في السلطة، فما يهمني هو النتائج التي أراها على أرض الواقع: أرى استقرارًا وتقدمًا في الدول الملكية وفوضى غير خلاقة في غيرها من دول المنطقة.
المشكلة في الديمقراطية في بلداننا بشكل خاص وحول العالم بدرجة أقل هي عدم مقدرتها على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وتشرشل يقول «أسوأ أنظمة الحكم هي الديمقراطية ما عدا أشكال الحكم التي عرفتها البشرية حتى الآن».
لكل ما سبق، تشكل البحرين نموذجًا في التلاقي بين القيادة والشعب من خلال المشروع الإصلاحي لجلالة الملك المفدى، في مملكة دستورية يضمن ميثاق العمل الوطني والدستور فيها حقوق الجميع والمساواة بينهم، ويرسخ استقرار الحكم.
أنا متفائل جدًا بالمستقبل، وواثق بقدرة سمو ولي العهد رئيس الوزراء على العبور بنا إلى بر الأمان رغم التحديات الكبيرة التي نواجهها، تماما كما نجح سموه في مواجهة جائحة كوفيد-19 ورسم قصة نجاح بحرينية باهرة أمام العام، والمجال مفتوح أمامنا الآن للمضي قدمًا في تفعيل رؤية البحرين الاقتصادية 2030، وتوحيد مسارات العمل الحكومي، وتحقيق التنمية الشاملة التي ننشدها لنا ولأبنائنا، فهنيئًا لنا بهذا القائد الذي يحمل حكمة الشيوخ وهمة الشباب، وواجب علينا، كلٌ في مكانه ووفقًا لإمكانيته، استلهام توجهات سموه وتوجيهاته وتحقيق تطلعاته.
*رئيس مجلس إدارة مجموعة بروموسِفِن القابضة
الأيام البحرينية
عذراً التعليقات مغلقة