الخيط الرفيع بين متعة النوستالجيا والعنصرية

12 ديسمبر 2020
الخيط الرفيع بين متعة النوستالجيا والعنصرية

محمد سالم المزعل

اعتبر قدماء اليونان الحنين إلى الوطن مرضاً، كسائر الأمراض العضوية، وأطلقوا عليه «نوستالجيا»، وهو اسم مركب من كلمتين: «نوستوس»؛ وتعني العودة إلى البيت أو الوطن، و«ألجوس»؛ وتعني الألم.

ومنه جاء المصطلح الإنكليزي Homesick. غير أن كثيراً من علماء الاجتماع المعاصرين اعتبروا أن النوستالجيا ليست داء عضوياً، بل ظاهرة اجتماعية؛ فردية وأحياناً مجتمعية، تعبر عن الحنين إلى الماضي، أو «الزمن الجميل»، كما اصطلح عليه مؤخراً في فضاء وسائل التواصل الاجتماعي.

من منا مثلاً لا يحن إلى فيلم قديم بالأبيض والأسود، أو أغنية قديمة أو ربما يعيش حلم يقظة يتذكر يوماً رمضانياً قبل عقدين أو أكثر حين كانت الحياة بسيطة وأكثر حميمية، بأحيائها القديمة وناسها وعاداتها وتقاليدها الجميلة. كثيراً ما أجد نفسي مؤخراً وقد انسحبت من ضوضاء الحياة، محاولاً التخفيف من معاناة نفس تسعى عبثاً إلى التأقلم مع واقع متغير لا ينفك يفاجئنا بالجديد في كل لحظة، فتتجه أصابعي نحو اليوتيوب في التلفون أو التلفزيون تبحث عن أغنية قديمة أو مسرحية قديمة. ليس رفضاً للحاضر، بل على الأرجح حنيناً لما كنته أنا قبل ثلاثين أو أربعين عاماً.. العودة إلى الطفولة وسني البراءة.

قليل من هذه النوستالجيا لا يضر، بل ربما كان مفيداً بعض الشيء، فهو منارة للتائهين بين زمنين، أو عدة أزمان، إذا كنت تجاوزت منتصف العمر. لتدرك موضع قدميك في هذا العالم، مهم جداً أن تكون واثقاً من أين بدأت، فعالمنا اليوم متسارع بشكل مرعب، ومهم هنا أن يكون لدى الإنسان موضع في الذاكرة يحول دون أن يفقد توازنه، في متاهة لا تفرق كثيراً عن متاهات مدن الملاهي. كما أن ذلك مهم مستحسن لتقدير الواقع الذي نعيش فيه، فهو واقع أضاف قيماً كثيرة وتسهيلات جمة إلى حياتنا. قليل من النوستالجيا لا يضر، كوجبة الهمبرغر؛ فمن الطبيعي أن يكون نظامك الغذائي صحياً كل الوقت. غير أنه لا يضر من وقت إلى آخر أن نسرق بعض المتعة بتناول وجبة همبرغر أو بيتزا.

نشعر معها بالرضا ومكافأة النفس على الالتزام بالنظام الغذائي الصحي. لكن كثيراً من تلك «المتع» ضار جداً. فلا يمكن اعتماد الهمبرغر أو البيتزا نظاماً غذائياً. ذلك في نظر كل المتخصصين جريمة في حق ذلك الإنسان. وكذلك النوستالجيا، فكثير منها مضر بالإنسان. ربما يؤدي الانغماس فيها كثيراً، كما يفعل البعض اليوم، إلى الانفصال تماماً عن الواقع، ومحاولة العيش في الماضي، وذلك أسوأ ما يمكن أن يقترفه الإنسان بحق نفسه ومجتمعه. يقول ماركس مكرراً قول يسوع: «دع الموتى يدفنون موتاهم». لا تكن ميتاً بين الأحياء. لا تعش في الماضي بل استفد من تجاربه فتصلح بها حاضرك وتبني مستقبلك.

لكن الخطيئة الكبرى استخدام النوستالجيا في السياسة، عبر اللعب على مشاعر الناس باستفزاز الحنين إلى الماضي المتجذر في كل منا. وخلال العقدين الأخيرين، استخدمت النوستالجيا كثيراً من قبل تيارات شعبوية وسياسيين فاشلين ليس لديهم ما يقدمونه إلى الرأي العام سوى استحضار ماضٍ بعيد واللعب على تلك العواطف. هذا ما فعله نايجل فاراج وتياره القومي خلال الاستفتاء البريطاني على «البريكست»، ما أدى إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي لا تزال مفاوضاته الشاقة ترهق كاهل البريطانيين والأوروبيين على حد سواء. واعترفت غالبية البريطانيين أخيراً بأن «البريكست» كان خطأ تاريخياً. وفي البال، الصعود المفاجئ لدونالد ترامب إلى البيت الأبيض قبل أربع سنوات على ظهر شعار نوستالجي: «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، يعتبر أن أميركا «المسيحية البيضاء» هي ما يجب أن تكون عليه البلاد، في حين لا تزال أميركا بتعدد أعراقها وثقافاتها القوة «الوحيدة» اليوم. واعترف معظم الأميركيين أخيراً بخطئهم التاريخي، ما أدى إلى هزيمة مذلة للرئيس في انتخابات الشهر الماضي. والأمثلة كثيرة كما في ألمانيا التي تقاوم بنجاح إلى اليوم تيارات النوستالجيا العنصرية، وكذلك إيطاليا واليونان. محاولة إحياء الماضي لا تبني مستقبلاً، بل تجعل المجتمع يدور في حلقة مفرغة من الإنجازات الموهومة. وفي البال هنا مسرحيات مثل «كأسك يا وطن» لدريد لحام و«باي باي عرب» للراحل الكبير عبد الحسين عبد الرضا، ارتكزت على محاولة العودة إلى «الماضي العربي المجيد»، ليفشل البطل في النهاية معترفاً بيأسه. وبين ظهرانينا اليوم كثير ممن يحاولون عبثاً إعادة اختراع العجلة فيلجأون إلى أساليب شعبوية ثبت عقمها في مناطق كثيرة، فمجتمعات اليوم تعددية تنظر إلى المستقبل، فلا يمكن للإنسان أن يعيش في الماضي بينما أبناؤه يعيشون في المستقبل.

تلك أقصى حالات الشيزوفرينيا. لم يعد الحديث مقبولاً اليوم عن هوية ما (وكثيراً ما تبدو تلك الهوية هلامية لا ملامح لها)، أو لهجة ما أو عادات أو تقاليد عفا عليها الزمن، في مجتمع اليوم المتعدد ديموغرافياً، فيضم حتماً مزيجاً من الثقافات والأعراق والديانات واللهجات والعادات. عبارات مثل تلك ليست لهجتنا أو تلك ليست برقصتنا أو ذلك ليس بلبسنا، ليست أكثر من شعار يختبئ وراءه عنصري مثل نايجل فاراج أو ترامب أو كثيرين لا تخطئهم العين. مثلهم مثل من يسعى إلى العودة بالمجتمع إلى «زمنه الجميل» في حين العالم يتجه بسرعة الضوء إلى المستقبل. النوستالجيا شعور فردي، ظريف وممتع، لا بأس به من وقت إلى آخر، لكنها يجب ألا تشكل برنامجاً انتخابياً أو نظاماً سياسياً شمولياً، فإن ذلك يصبح داء مجتمعياً قاتلاً كما وصفه اليونانيون القدماء. 

القبس الكويتية

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    الاخبار العاجلة
    WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com