محمد زكي ابراهيـم
اتسمت حقبة الاستعمار التي شهدتها بلدان الشرق الإسلامي في القرنين الماضيين بظهور معارضة قوية انطلاقاً من دوافع دينية. لكنها لم تنجح في طرد المستعمر، أو إجباره على الانكفاء. فقد كان هناك تفاوت كبير في القوة بين محتل تتكدس لديه أحدث المعدات، وشعب فقير لا يملك سوى قوت يومه.
إلا أن هذه الحوادث تحولت إلى هم دائم، وشغل شاغل، في ضمير النخبة المتعلمة، على قلتها في تلك الأيام. ودفعتها للبحث عن أسباب ظاهرة الاستعمار، وعوامل نشأتها. كما جعلتها تتقصى مواطن الضعف في جسد الامبراطورية العثمانية ، التي تحولت إلى لقمة سائغة في أفواه الحلفاء.
كان هناك جيل من المفكرين الذين عاصروا هذه الحقبة، وهالهم ما حدث فيها، مثل الأمير شكيب أرسلان (1869 – 1946) الذي ساح وجال، وحاضر وكتب، داعياً الناس إلى الوحدة. وكان من أعظم المتبنين لإنشاء الجامعة العربية، التي رأت النور قبل وفاته بقليل. وله كتاب بالغ الدلالة عنوانه “لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم” أثار فيه الكثير من الأسئلة حول موضوع التخلف.
في ما بعد ظهر مفكرون مهمون دعوا إلى النهضة، وبحثوا في السبل الموصلة إليها، كان أبرزهم على الإطلاق مالك بن نبي (1905 – 1973) الذي وضع عشرات الكتب ضمن سلسلة “مشكلات الحضارة”. ناقش فيها بطريقة رصينة سر تخلف الشرق، وتضعضع أقطاره. وجاء بنظرية القابلية للاستعمار التي رأى أنها وراء انتكاسة البلدان التي وطأتها أقدام المستعمر أو التي لم تطأها على حد سواء.
غير أن ما يثير العجب أن هذه الأصوات لم تجد من يواصل مسيرتها، أو يعمل على تطوير أفكارها، في ما بعد . وبدلاً من ذلك توجهت النخبة نحو المستعمر ذاته، باحثة في ملفاته عن حلول لمشاكلها المزمنة. فمال البعض إلى اليسار ودعا إلى حكومة المشاركة الشعبية. ثم تحول عنها إلى الديمقراطية وما بعد الحداثة.
وما أن أطلت العولمة حتى هرع إليها طالباً النجاة. مع أن الآخر الغربي لم يفعل شيئاً من أجل تحديث المنطقة خلال الحقبة التي فرض هيمنته فيها، أو الحقبة التي أعقبتها، وكان أحد أسباب ما عانته من تراجع وخمول.
لقد كان من المتوقع أن يسفر التلاقح الحضاري بين مجموعتين غربية وشرقية إلى نوع من التوازن، يقوم المتخلف فيها بتقليد المتحضر، ويكتسب منه بعض عاداته، مثلما فعل المغول بعد احتلالهم بغداد عام 1258 للميلاد. إلا أن هذا لم يحدث في العصر الحديث، وبقيت الهوة شاسعة بين الطرفين. بل أن الاستعمار الاستيطاني (الذي يفترض أن يؤدي إلى وحدة اندماجية) تسبب في تراجع الإنتاج الزراعي وانخفاض نسبة المتعلمين، كما حدث في الجزائر – وهي الطرف الأضعف – قبل الاستقلال.
لقد أدت القابلية للاستعمار، كما يرى بن نبي، إلى الإحجام عن البحث في مصادر القوة الداخلية، والطاقات الكامنة لدى الأمة. فاستسلمت بشكل مريع إلى التفوق الغربي. وباتت مولعة بتقليده عبر اقتناء منتجاته، مما جعلها خارج دائرة التاريخ حتى اليوم. ولن يحدث في السنوات القادمة أي تقدم يذكر إذا ما اقتصرت هموم الشرقيين على ما يأتيهم من فكر جاهز يصنعه الآخرون في معاملهم الخاصة، التي تلائم ما طبعت عليه مجتمعاتهم من ثقافات وأذواق.
عذراً التعليقات مغلقة