محمد زكي ابراهيـم
في الحروب التي تخوضها الدول ضد الغزاة تجتمع القلوب، وتتوحد الإرادات. يضع الناس خلافاتهم جانباً، ويشرعون في العمل من أجل هدف مشترك. ثمة مهمة أكبر مما يمكن تصوره. فالخطر القادم على الأبواب سيداهم الجميع دون استثناء، ولا وسيلة لتفاديه سوى المرابطة على الساتر. وبعد أن ينجز المقاتلون عملهم، يبدأون بمعاينة ما تحقق لهم من ربح، أو ما لحق بهم من خسارة. سيكتشفون فجأة أنهم اصبحوا أشخاصاً آخرين. لقد زالت عنهم الغشاوة، وغنموا ما لم يحلموا به في يوم من الأيام.
لم تكن الحرب التي انطلقت ضد الغزاة بعد سقوط الموصل عام 2014 مجرد معارك تقليدية، أو محض مناوشات بآلات الحرب العادية. كانت هناك جذور فكرية وطائفية واضحة للعيان. كما كانت هناك عوامل سياسية وقومية لا تخفى على أحد. ربما لم يدرك أولئك الذين تخاذلوا في أحرج الظروف، أنهم سمحوا بنشوب حرب طويلة ممضة، كان من الممكن تلافيها في غضون أيام قليلة. قتل وشرد واستبيح عدد لا يحصى من الناس، وجرى إحياء عادة السبي التي كان يظن أنها انقرضت منذ قرون، ودمرت مدن وقرى وضياع، وأهدرت أموال. ومع ذلك فإن هذه الحرب التي كشفت عن ضعف كبير في المنظومة العسكرية، ووهن شديد في مفاصلها، دفعت أناساً آخرين لسد الثغرة، ودفع الأذى، وإصلاح الخلل.
لا يمكن لأحد مهما كان رصيده من الطيش أن ينكر أن المتطوعين الذين نفروا للقتال ضد الغزاة، كانوا هم العامل الذي غير التوازنات. كان الجزء الأهم من هؤلاء ينتمي إلى مجموعات مقاتلة قديمة، تأسست قبل سقوط النظام السابق، أو بعده مباشرة. استرخى البعض منها منذ ذلك الحين، بعد أن انخرط في لعبة السياسة، وركن للعزلة من انشق عن تنظيمات متطرفة، أو سعى للقتال في جبهة أخرى. في ما نهضت مجموعات جديدة دعتها المؤسسة الدينية إلى امتشاق السلاح. كان هناك اندفاع كبير باتجاه قطع الطريق على الغزاة، وإبعادهم عن المراكز الحضرية المهمة. وشيئاً فشيئاً تمكن هؤلاء من لملمة الوضع وقلب المعادلة. في ما كانت القوات الحكومية تسترجع قوتها، بعد أن ألهمها ثبات المتطوعين على الأرض الحماس والمثابرة والعزيمة.
وما أن وضعت الحرب أوزارها، وعاد القسم الأكبر من حيث أتى، حتى اكتشف هؤلاء أنهم تغيروا كثيراً. كانوا سعداء بمحبة المجتمع وتقديره العالي. اكتسبوا خبرات عالية، وتعلموا قواعد الاشتباك، وأدركوا أن الأولوية تكمن في معرفة العدو على الأرض، ثم تسديد الضربات إليه في المناطق الرخوة. أيقنوا أن من المؤلم العبث مع الصديق، أو الدخول معه في نزاع. من يتأمل فيهم اليوم يدرك أنهم عازفون عن استفزاز الغير. وحينما يتعرضون للتضييق، يتذرعون بالصبر. لقد وقعوا في كمائن كثيرة من رفاقهم القدامى، الذين بقوا على هامش الحرب، بغية استدراجهم في زاوية حرجة. لكنهم لم يبدوا أي ردة فعل، ولم ينبسوا ببنت شفة. ربما ظن الآخرون أنها نقطة ضعف، أما هم فلم يعنهم الأمر في شئ.
ليس ثمة شك أن هؤلاء هم غير أولئك. إنهم مختلفون تماماً. فقدوا الكثير من جموحهم القديم، يوم كانوا يحاربون من أجل ملء فراغ السلطة. باتوا الآن واعين إلى أن مهمتهم أصبحت حماية الوطن من الغزاة والطائفيين والعنصريين، الذين ما انفكوا يلوحون عبر وسائلهم الإعلامية أنهم بانتظار الفرصة الملائمة .
هل يوجد ربح أكثر من هذا، وهل يمكن الحصول على نصر أعز منه؟ لا أظن ذلك أبداً.
عذراً التعليقات مغلقة